أخبار عاجلة

التصوف الإسلامي .. أقطاب ومقامات وتجليات (5)

جدير بالذكر الإشارة إلى ملمح استثنائي في تجربة التصوف الإسلامي، هذا الملمح هو التوازي الفريد بين الفكرة والوجدان، وقلما نجد حركات دينية تجمع بين الأمرين دون أن يطغى جانب على آخر…

الأستاذ الدكتور بليغ حمدي

بقية: الطريق إلى الصبر

جدير بالذكر الإشارة إلى ملمح استثنائي في تجربة التصوف الإسلامي، هذا الملمح هو التوازي الفريد بين الفكرة والوجدان، وقلما نجد حركات دينية تجمع بين الأمرين دون أن يطغى جانب على آخر، إلا أننا نجد التصوف يستطيع أن يقيم علاقة مستقرة بين حالات الوجدان التي غالبًا لا تتسم بالاستقرار وبين الفكرة التي عادة ما تتحول إلى رؤى وأيديولوجية، ولعل هذا التوافق يتحقق جليًّا حينما ينبذ المرء الجدل ولا يقرع أبوابه مكتفيًا فقط بباب العمل والاجتهاد والتدبر، والصوفي العراقي معروف الكرخي أشار إلى هذا بقوله: ” إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح عليه باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرًّا أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل”. وهذا القول يمثل بلا شك رفض الصوفية لنزعات الكلام واللغو واللغط وفوضى الجدال.

هذه الدنيا لا يمكن توصيفها سوى بأنها ثمة رموز غير استثنائية، يمر بها المرء منا في محاولة لفهمها وفك تلك الرموز؛ حتى يصل في النهاية إلى تفسير حقيقي لذاته واستنطاق كنه وجوده، وهذه العلاقة بين الدنيا والمرء تكمن حالة الاختيار الحر الكامل للإرادة الإنسانية، وتتنوع رهانات الإنسان صوب شهوده الدنيوي، فبين إنسان يقرر أن يتحمل المسئولية الكاملة بتحرره من قيد المسئولية الأرضية بشهواتها وفتنتها، وبين آخر يدفع ثمن استلابه لشرور النفس كالحقد والحسد والسخرية والاضطهاد واستغلال الضعفاء تكمن الحقيقة ويستقر اليقين بأن الدنيا في كلتا الحالتين شواغل وعوارض، وطوق النجاة هو أن تفنى بذاتك قبل فنائك، وأن تعبر البحر لتصل إلى شاطئ بعيد عن النفس قريب من الروح، تجد فيه شخصًا واحدًا بغير تعدد، هو أنت. وهذه الرحلة التي تسمى الدنيا مشحونة بمشاهد متباينة؛ مشهد يتسم بالفجور والغرور والذات الفاسدة، ومشهد مشحون بالتأمل والتدبر والتفكير، ومشهد ثالث وأخير ينتهي بك إلى يقين المعرفة ألا وهو التصوف، وهم أولئك الذين استحقوا عطاء الواجد باجتهاد بالموجود.

ولعل أسرع طريقة لتحقيق غاية العلم وهي المعرفة طرح الأسئلة المباغتة التي تظل قابعة في الذهن بغير حراك لكن المرء على غوايته القديمة يأبى طوعًا تارة وكرهًا تارة أخرى في الدفع بها إلى الشهود والحضور، لذا فمن الأحرى مباغتتك أنت بأسئلة الدهشة. ماذا ستسطر في صفحتك الشخصية بكتاب التاريخ عن واقعك الإنساني الذي عاصرته؟ وكيف ستوصِّف ملامح الجيل الزمني الذي تنتمي إليه؟ وأخيرًا هل أتاك حديث الحكمة؟.

وبكثرة الأسئلة تستطيع أن تصل إلى يقين المعرفة، فحينما سئل عبد الله بن عباس: بأنى أصبت هذا العلم؟ قال: ” بلسان سئول وقلب عقول “، وقد لا يعي كثيرون أن هناك ما يسمى بمقام اليقين، وهو مقام العابد الذي يفكر بعقل سديد مستنير خالٍ من هوس فتنة الدنيا، وبطش شواغلها الفانية، وهذا اليقين هو المقام الذي ينتقل بك سريعًا من حال الشك المتولد من طرق الأسئلة إلى برهان المعرفة الذي يتحقق عن طريق الثقة في الله وبالله التي لا يعتريها شك أو ظن سلبي، ثقة مفادها اطمئنان القلب مع الله، وهكذا كان حال الأنبياء والرسل مع الله تبارك وتعالى.

فنوح A الذي استقر قلبه بالطمأنينة وهو يصنع الفلك ويأمر أهله بالتوحيد كان على موعد بالثقة مع الله U والنجاة والفلاح، وإبراهيم A حينما أمر أن يأخذ زوجه وابنه إسماعيل A إلى موضع غير ذي زرع ويتركهما، فتكرر السيدة هاجر سؤالها مرات ثلاث: ألله يأمرك بهذا؟ فقال A: ” نعم “، فقالت: ” إذًا لا يضيعنا ربك “. فكان إبراهيم وزوجه على موعد آخر مع الثقة بالله بطمأنينة أودعها الله بقلبيهما.

ورسولنا الكريم محمد بن عبد الله J يقول شارحًا دلالات اليقين بحديثه الشريف، يقول: ” إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ “، إذًا اليقين بالله يحتاج إلى نوع استثنائي وعظيم من الإيمان لا يتحقق إلا بالاجتهاد في الطاعات مع مساحات واسعة من الاطمئنان بقضاء الله وقدره. وعليه فإن المؤمن لا بد وأن يعي بأن مقام اليقين هذا يتفضل الله به على من جاهدوا في سبيله، وقاموا جاهدين بتطهير نفوسهم من شرورها وشهواتها، وأخلصوا العبادة للواحد القهار، وتعلقت بالله هممهم.

وكل من اليقين والمعرفة والاطمئنان يتحقق لمن أنس بالله، يقول ذو النون المصري: ” إذا أكرم الله عبدًا ألهمه ذكره، وألزمه بابه، وآنسه به، يتعرف إليه بأكبر الفوائد، ويمده من عنده بالزوائد، ويصرف عنه أشغال الدنيا والبلايا، فيصير من خواص الله وأحبابه، فطوبى له حيًّا وميتًا، ولو علم أبناء الدنيا ما فاتهم من حظ المقربين، وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين: لماتوا كمدًا “. وقال أيضًا: ” إذا صح اليقين في القلب صح الخوف منه “.

وروى بعض الصالحين أنه رأى جارية في البادية ليس معها أحد، فقال لها: إلى أين أنت ذاهبة؟ فقالت: إلى الحبيب. قال: فما تستوحشين وحدك هذه البادية؟، فرفعت صوتها قائلة: )يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( (الحديد: 4). ثم أردفت قائلة: من استأنس بالله، استوحش عمن سواه، ومن طلب رضاه، صبر على قضاه.

ووسط هذه اليوميات وغيرها من إحداثياتنا اليومية المكرورة والمتتابعة بكلل ونصب وصخب وضجيج، نقف أمام آي الذكر الحكيم بمساحات بعيدة وعريضة من الدهشة والتأمل، ونقول لأنفسنا ذات العبارة التي لا نمل من ذكرها وتبقى خير دليل على إعجاز النص القرآني وديمومته وبلاغته الاستثنائية ألا وهي: وكأني أول مرة أقرأ هذه الآية!. وهذه العبارة التي أصبحت من أبرز تعليقاتنا ونحن نقرأ القرآن الكريم بتمعن لاسيما في المناسبات الدينية كشهر رمضان الذي نتبارى فيه بختم القرآن دونما الاكتراث بتفسيره أو فهم معانيه الجليلة – تعزز لدينا يقين أن القرآن بحق هو معجزة الإسلام الخالدة.

وكم من مرة ـ عزيزي القارئ الكريم ـ قرأت أو سمعت قول الله تعالى في كتابه العزيز لنبيه موسى A: )إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى( (طه: 12) لكنك لم تكترث بمسألة خلع النعلين التي وردت في الآية الكريمة. ولقد اجتهد كثيرون ولا يزالوا في اجتهادهم لتفسير هذه الآية التي وردت في سورة (طه) فمنهم من وقف عند حدود اللفظ اللغوي ولم يتعداه، ومنهم من أقرن النص بسياقه التاريخي الزمني قاصرًا تفسيره عند موسى A، ومنهم من أخذ بالتأويل وغاص في دلالات النص غير الظاهرة.

فالحسين بن مسعود البغوي في تفسيره يورد رأي عكرمة ومجاهد بأن الله تبارك وتعالى أمر موسى بخلع النعلين ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدسة، فيناله بركتها؛ لأنها قدست مرتين، فخلعهما موسى وألقاهما أما الشوكاني في تفسيره المعنون بـ ” فتح القدير الجامع بين فني: الرواية، والدراية ” فيقول: إن المعنى المراد من الآية أن سبحانه أمر موسى بخلع نعليه؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب. وقيل: إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، ويردف الشكوكاني قائلًا: ” ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال: إنك بالوادي المقدس طوى المقدس المطهر، والقدس الطهارة، والأرض المقدسة المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين “.

وابن العربي في كتابه ” أحكام القرآن ” يرى أن في الآية الكريمة مسألتين؛ الأولى ينقلها نقلاً عن سابقيه وهي كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت، أما الثانية وهي رأي ابن العربي الشخصي: إن قلنا: إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما أجدره بالصحة، فقد استحق التنزيه عن النعل، واستحق الواطئ التبرك بالمباشرة، كما لا تدخل الكعبة بنعلين، وكما كان مالك لا يركب دابة بالمدينة، برًّا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة. وإن قلنا برواية ابن مسعود، وإن لم تصح، فليس بممتنع أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان أول تعبد أحدث إليه، كما كان أول ما قيل لمحمد J قوله تعالى: )قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ( (المدثر: 2 – 5).

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …