السيدة نفيسة كانت مهابة لدى الراعي والرعيــة، وكـلمتها مسموعة من العامة والخاصة، ما كانت تهاب أحدًا ولا تتعلق بشيء إلا بالله وحده…
السيد علاء أبو العزائم
شيخ الطريقة العزمية
ورئيس الاتحاد العالمي للطرق الصوفية
السيدة نفيسة.. درة الكنز الممنوحة
في يوم الثلاثاء 8 أغسطس 2023م افتتح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مسجد ومقام السيدة نفيسة عليها السلام بعد تطويره وتجديده، وذلك بعد قيامه بافتتاح مسجد مولانا الإمام الحسين عليه السلام يوم الأربعاء 27 أبريل 2022م بعد تطويره وتجديده، وما زلنا ننتظر الانتهاء من تطوير وتجديد مسجد السيدة زينب الكبرى عليها السلام وباقي مساجد ومقامات أهل البيت عليهم السلام في مصر.
فمن هي السيدة نفيسة؟ وكيف كانت حياتها وعلومها وكرامتها؟
مولد السيدة نفيسة عليها السلام
ولدت السيدة الطاهرة بمكة المكرمة، في يوم الأربعاء الحادي عشر من شهر ربيع الأول سنة 145هـ، وقد فرحت أمها بمولدها، واستبشر بها أبوها بعد أن تكشف في سيماها شبهًا عظيمًا بأخته عمتها السيدة نفيسة بنت زيد، وهي التي تزوج بها الخليفة الوليد بن عبدالملك، فاختار لها أبوها اسم عمتها لنفاستها، ومن الجدير بالذكر أن عمتها السيدة نفيسة رحلت إلى مصر وتوفيت بها، ومقامها بالقرب من مسجد السيدة نفيسة بالقرافة قبلي شارع الزرايب، وشرقي الشارع الموصل للسيدة جوهرة.
والدها:
والدها هو السيد أبو محمد الحسن الأنور بن زيد الأبلج بن الحسن السبط بن الإمام علي D، فهي من دوحة النبوة التي طابت فرعًا، وزكت أصلًا.
وكان والدها عالمًا عظيمًا، وجليلًا من كبار علماء أهل البيت، معدودًا من التابعين، مجاب الدعوة، فاضلًا شريفًا.
وفي سنة 150هـ عزل الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عامله جعفر بن سليمان عن إمارة المدينة، وولاها لوالدها السيد الحسن بن زيد، وكان والدها كثير الثراء، وقد خلف من الذكور تسعة، ومن البنات اثنتين هما: السيدة أم كلثوم، والسيدة نفيسة، ولم يبلغ واحد من أولاده من الشهرة وذيوع الذكر ما بلغنته ابنته السيدة نفيسة، فهي درته اليتيمة، وغرَّته الوضاءة.
كان والدها عليه السلام دائمًا يأخذ بيدها ويدخل بها إلى روضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة، ويقول: (يا رسول الله إني راضٍ عن بنتي نفيسة)، ويرجع، فما زال يفعل ذلك؛ حتى رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وهو يقول: (يا حسن! إني راضٍ عن ابنتك نفيسة برضاك عنها، والحق سبحانه وتعالى راضٍ عنها برضاي عنها).
وقد توفى السيد الحسن الأنور عام 168هـ، وهو في طريقه إلى الحج في صحبة الخليفة محمد المهدي ودفن في الحجاز، وقيل: بالحاجر، ويذكر الشعراني أنه مدفون بتربته المشهورة قريبًا من جامع القراء بين مجراة القلعة “العيون” وجامع عمرو ابن العاص، والرأي الثاني هو الأقوى.
يقول الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم عند زيارته لروضة السيد حسن الأنور بالقاهرة:
يَاأَنْجُمَ النُّورِ فِــــــــــــي أُفْقِ الْهِدَايَاتِ
وَآيَةً بَيَّنَتْ سِــــــــــــــــــــــرَّ الْعِنَايَاتِ
يَاغُصْنَ دَوْحَةِ مَجْدٍ مِــــــنْ سُلَالَةِ مَنْ
هُوَ الرَّءُوفُ رَحِيـــــــــــــمٌ نَصُّ آيَاتِ
الْفَرْعُ فَرْعُكَ يَامَـــــــــــــوْلَايَ مُبْتَهِلٌ
مُتَوَسِّلٌ بِكَ يَا أَصْلِي وَبَرَكَاتِـــــــــــــي
يَاأَنْوَرَ الْوَصْفِ يَاحَسَنَ الْكَمَــــالِ وَيَا
حَفِيدَ سِبْطِ الْمُرَجَّــــــــــــــىٰ لِلْهِدَايَاتِ
مَنْ أَمَّ بَابَكَ يَانَسْلَ النَّبِيِّ يَفُـــــــــــــــزْ
بِمَا يُرِيدُ وَيَحْظَـــــــــــــــىٰ بِالإِجَابَاتِ
وَافَيْتُ مِنْ بَلَدٍ قُصْوَىٰ وَلِي أَمَــــــــــلٌ
وَأَنْتَ حُسْنُ الْمَعَانِي وَالْمَبَــــــــــــرَّاتِ
غُصْنٌ لِدَوْحَةِ مَجْدٍ مِنْ عُلًا وَنَـــــــدًى
اللَّهُ شَرَّفَكُمْ بِصَرِيـــــــــــــــــحِ كَلِمَاتِ
يَاسَيِّدِي الْفَرْعُ وَالْمَنْسُوبُ أَمَّكُمُـــــــــو
تَفَضَّلَنْ سَيِّدِي بِجَمِيـــــــــــــلِ نَظَرَاتِ
يَاأَنْوَرَ الْوَصْفِ ﴿مَاضِي﴾ فَرْعُ دَوْحَتِكُمْ
وَافَىٰ إِلَيْكَ فَأَكْــــــــــــــــرِمْهُ بِخَيْــرَاتِ
عَلَيْكَ يَابَضْعَةَ الزَّهْرَاءِ مِــــــــــنْ أَحَدٍ
سَلاَمُــــــــــــــــــــهُ وَجَمَالَاتُ التَّحِيَّاتِ
والدتها:
أما والدتها فهي أم ولد، وأما إخوتها فأمهم أم سلمة زينب بنت الحسن بن الحسن بن الإمام علي عليهم السلام ، وليس ذلك بضائرها ولا ما ينقص من قدرها، فقديمًا تسرى الخليل إبراهيم عليه السلام بالسيدة هاجر فولدت له سيدنا إسماعيل عليه السلام، فكان من نسله صفوة خلق الله سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
نشأتها
في بيت كريم وبين أسرة طهرها الله سبحانه وتعالى تطهيرًا وأذهب عنهم الرجس، فتحت السيدة كريمة الدارين عينيها، ووعت أذناها كتاب الله العظيم، فقد بدأت في سن مبكرة في تلاوة القرآن الكريم بمفردها، ثم عملت على حفظه؛ حتى تم لها ذلك في خلال سنة واحدة فقط، أما العبادات المفروضة، فقد أثر عنها عليها السلام أنها كانت تؤدي الصلوات الخمس بانتظام مع والديها في المسجد الحرام، وهي في السادسة من عمرها.
ونشأت كذلك آية من آيات الله تعالى في قوة الذاكرة والحافظة، صفاء نفس ونقاء حدس، فكان طبيعيًّا أن تتجه بكل قواها إلى كتاب الله الكريم، فألمت بتفسيره وتأويله فاستجلت غوامضه، وخاضت عبابه.
وأخذت وهي تنمو جسمًا وعقلًا وروحًا، تقوم الليل وتصوم النهار وتمعن في العبادة والدراسة، فاتجهت بكل روحها إلى دراسة حديث جدها فروت منه عن أبيها وآل بيتها وعلماء عصرها، وخاصة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وأخذت بحظ وافر من الفقه والعلم، ومن هنا جاء اللقب الذي اشتهرت به “نفيسة العلم”.
وقد حجت في حياتها المباركة ثلاثين مرة أكثرها ماشية على قدميها، وكان القدوة لها في ذلك جدها الإمام الحسن D الذي كان يقول: (إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمشِ إلى بيته).
وقالت السيدة زينب بنت يحيى المتوج – شقيق السيدة نفيسة المدفون عند الإمام الليث بالقاهرة، وقيل: دفن بقرية الغار المتاخمة لمدينة الزقازيق عاصمة محافظة الشرقية -: (خدمت عمتي السيدة نفيسة أربعين سنة فما رأيتها نامت بليل ولا أفطرت بنهار، إلا العيدين وأيام التشريق، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبات لا يقطعهن؛ إلا الفائزون).
وكانت السيدة الورعة زاهدة في دنياها، تؤمن بمنهج الزهد وتمارسه، وقد مالت بطبعها منذ صغرها إلى حياة بعيدة من زخرف الحياة الدنيا وزينتها، بالرغم من أن أباها كان أميرًا للمدينة، وكان بلا شك يعيش عيشة رغدة.. ولكنها ما كانت تستشرف إلى لذائذ الدنيا وشهواتها، ويروى أنها كانت تأكل كل ثلاثة أيام مرة.. وكانت لها سلة معلقة أمام مصلاها، فكانت كلما اشتهت شيئًا وجدته في السلة.
تقول السيدة زينب بنت يحيى: (كنت أجد عندها ما لا يخطر بخاطري ولا أعلم من يأتي به، فعجبت من ذلك، فقالت: يا زينب، من استقام مع الله تعالى؛ كان الكون بيده وفي استطاعته).
زواجها
بلغت كريمة الدارين سن الزواج فرغب فيها شباب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بني الحسن وبني الحسين، وكذلك شباب أشراف قريش، وكان أبوها يأبى عليهم إجابة طلبهم ويردهم ردًّا جميلًا، إلى أن أتاه إسحاق المؤتمن- شقيق السيدة عائشة دفينة مصر- ابن الإمام جعفر الصادق D، وكانت دار الحسن والدها قبالة دار الإمام جعفر الصادق والده، فخطبها من أبيها فلم يرد عليه جوابًّا، فقام إسحاق، وذهب إلى المسجد النبوي، ودخل الحجرة الشريفة، وقال: (يا رسول الله، إني خطبت نفيسة بنت الحسن من أبيها لم يرد جوابًا، وإني لم أخطبها إلا لخيرها ودينها وعبادتها)، ثم انصرف.
وفي تلك الليلة رأى أبوها جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في نومه، وهو يقول له: (يا حسن! زوج نفيسة من إسحاق المؤتمن)، فما أفاق من نومه؛ حتى بعث إلى إسحاق يستدعيه إليه ويخبره رؤياه، وما لبث أن عقد على ابنته وكان ذلك يوم الجمعة 5 رجب 161هـ، وكان عمرها خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وأربعة وعشرين يومًا، وبعد أن جهزها أبوها وجليت لزوجها بنى عليها في دار أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام بالمدينة.
وبزواج السيد إسحاق من السيدة نفيسة اجتمع في بيتها نوران، نور الإمامين الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فالسيدة نفيسة جدها الإمام الحسن، والسيد إسحاق جده الإمام الحسين.
وكان إسحاق من أهل الفضل والاجتهاد والورع والصلاح، روى عنه الكثير من الناس الحديث والآثار، وتولى ولاية المدينة خلفًا لوالدها السيد حسن الأنور، وولدت نفيسة العلم من إسحاق ولدين هما: القاسم، وأم كلثوم، وقد رحلا بعد وفاة أمهما مع أبيهما إلى المدينة ودفنا بها.
وكانت السيدة نفيسة عليها السلام زوجة مخلصة لم يشغلها أي أمر عن مسئوليتها كزوجة، وحتى يفاخر بها المؤتمن الدنيا، ويذكر للناس من حوله أنه قد وجد فيها نعمة الله عليه، فلم تقصر في حق له أبدًا، ولم يشغلها أي أمر عن حقوقه وواجباته.
من بلد الرسول إلى القاهرة
ولدت السيدة نفيسة بمكة كما ذكرنا، وانتقلت إلى المدينة بصحبة أبيها، ولبثت بالمدينة إلى أن رُوِّعت بحبس المنصور لأبيها من سنة 156-159هـ، ثم أخرجه المهدي من حبسه ورد عليه ماله، وبعد زواجها من السيد إسحاق المؤتمن عاشت ردحًا من الزمن، وهي تتشوق لزيارة روضة أبيها الخليل إبراهيم عليه السلام ، وتحققت الأمنية وبلغت المزار.
في يوم السبت 26 رمضان 193هـ وصلت السيدة نفيسة إلى مصر مع زوجها وأبيها وابنها وابنتها لزيارة روضات أهل البيت بها، قبل أن يقدم إليها الإمام الشافعي بخمس سنين، وكان ذلك في ولاياة الحسن البحبحاح والي مصر من قبل الرشيد، وقد استقبلها المصريون في العريش أحسن استقبال، يهللون ويكبرون ولم يزالوا معها حتى دخلت مصر، فأنزلها عنده كبير التجار بمصر جمال الدين عبدالله الجصاص، وكان من أهل الصلاح والبر والمحبة في الصالحين والعلماء والسادة الأشراف، ثم انتقلت إلى دار سيدة مصرية معروفة بأم هانئ بجهة المراغة – المعروفة الآن باسم القرافة – والقبر الطويل بالمصاصة أو المنصوصة، وكانت امراة ورعة تقية صالحة، فلم ينقطع عنها الزوار وانهال عليها الناس يلتمسون النفحات والبركات.
وقد سئلت عن رأيها في مصر، فقالت عليها السلام: (لقد أراد الله بمصر خيرًا، وكفاها شرفًا أنه ذكرها في القرآن كما ذكر مكة).
وكان لوجودها في مصر فضل على أهل مصر، فعندما شح عليهم النيل وجف منسوبه جاءوا إليها وقالوا لها: إن منسوب النيل قد انخفض، فما لبثت إلا أن أظهرت كرامة من كراماتها، فخلعت خمارها وطلبت من أهل مصر أن يلقوا به في ماء النيل، ففاض النيل ببركة نفيسة العلوم.
علاقتها بعلماء وحكام عصرها
لقد أقبل كبار العلماء على السيدة نفيسة في كل مكان تواجدت فيه، ففي المدينة أقبل عليها بشر الحافي وأحمد بن حنبل، وقد طلب كلاهما منها الدعاء فقالت: (اللهم إن بشر بن الحارث وأحمد بن حنبل يستجيران بك من النار، فأجرهما يا أرحم الراحمين).
والتقت السيدة نفيسة في مصر بالإمام الشافعي رضي الله عنه، وتوطدت بينهما الصلة، ورأى من علمها ومعرفتها ما جعله يثني عليها ثناء مستطابًا ويتلقى عنها بعض العلم، وقد صلى التراويح بمسجدها مرارًا عشرين ركعة بعشر تسليمات ثم يوتر بثلاث، وكان إذا مرض يرسل لها رسولًا من عنده كالربيع الجيزي أو الربيع المرادي، فيقرؤها سلامه ويقول لها: إن ابن عمك الشافعي- كان يجتمع مع رسول الله في عبد مناف بن قصي بن كلاب- مريض، ويسألك الدعاء فتدعو له، فلا يرجع إليه رسوله؛ إلا وقد عوفى من مرضه.
فلما مرض الشافعي مرضه الأخير، أرسل لها على عادته رسوله يسألها الدعاء له، فقالت لرسوله: متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم.
تقول السيدة نفيسة عن الإمام الشافعي: (لقد كان يحسن الوضوء، وحين يُطلب إليها التوضيح تقول: إن الوضوء الصحيح هو الأساس الذي تُبنى عليه العبادات، فإذا كان الأساس قويًّا كان البناء سليمًا، وإن أعمال الوضوء كلها طريق إلى غسل القلوب من صدأ الذنوب، وشرح للصدور، وخطوة العبد يتقرب بها إلى ربه).
وكانت B شديدة في الحق لا تهاب الأمراء، ومما يروى في ذلك ما ذكره المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني في تاريخه أن الناس استغاثوا بنفيسة بنت الحسن من ظلم أحمد بن طولون فكتبت له رسالة، وانتظرت حتى مرور موكبه فخرجت له، فلما رآها نزل عن فرسه، فأعطته الرسالة، وكان فيها: (ملكتم فأسرتم، وقدرتهم فقهرتم، وخولتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفَّاذة غير مخطئة، لا سيما من قلوب أوجعتموها، وأكباد جوعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) فخشع ابن طولون لقولها وعدل من بعدها.
لكن إذا نظرنًا للوقائع التاريخية، سيثبت أن السيدة نفيسة لم تعاصر أبا العباس أحمد بن طولون قطعًا؛ لأنه ولد عام 220هـ أي بعد انتقال السيدة نفيسة بحوالي أحد عشر عامًا تقريبًا، فقد انتقلت إلى جوار ربها في رمضان 208هـ، ويبدو أن هناك خطأ وخلط في ذكر اسم الحاكم الذي نصحته السيدة بهذه النصيحة، وهو السِّرِّي بن الحكم.
وهذا لا يقدح في أن السيدة نفيسة كانت مهابة لدى الراعي والرعية، وكلمتها مسموعة من العامة والخاصة، وإن ضعف الدليل لا يستلزم بطلان المدلول، خاصة إذا كان مشتهرًا ومعتبرًا لدى الكافة من أن السيدة نفيسة العلوم ما كانت تهاب أحدًا ولا تتعلق بشيء إلا بالله وحده.
وما يدل على قوة تأثيرها في الحكام، أن وهب السري بن الحكم لها مائة ألف درهم، وقال: خذي هذا المال شكرًا لله تعالى لتوبتي، فأخذته وصرته صررًا بين يديها وفرقت الصرر عن آخرها، وكان عندها بعض النساء، فقالت لها: يا سيدتي لو تركت لنا شيئًا من هذه الدراهم لنشتري به شيئًا فنفطر عليه، فقالت لها: (خذي غزلًا غزلته بيدي فبيعيه بما تشتري به طعامًا نفطر عليه)، فذهبت المرأة وباعت الغزل وجاءت بما أفطرت به هي وإياها، ولم تأخذ من المال شيئًا فهي الجوادة بنت الجواد، وما كانت تنفق على نفسها وأفراد بيتها إلا ما كان من مالها أو مال زوجها أو ما يأتيها مما تغزله بيديها، وكانت لا تأكل طعامًا لغير زوجها.
بالإضافة لذلك كان لها مال كثير إلى جانب مال زوجها تحسن منه إلى المرضى والمحتاجين والناس عامة، فما كانت ترد سائلًا ولا تمنع مستجديًا، وكانت تتعرف من به حاجة فتقضي حاجته.
كرامتها
للسيدة نفيسة كرامات كثيرة في حياتها وبعد وفاتها متصلة متتالية، وقد ذكر ابن حجر العسقلاني نحوًا من مائة وخمسين كرامة لها على سبيل المثال لا الحصر، وكرامتها عليها السلام أجلى وأظهر ونورها ساطع، وسنكتفي بذكر قصة واحدة مختصرة، وهي قصة بنت اليهودي:
لقد كان يجاور بيت أن هانئ رجل من اليهود يقال له: أبو السرايا أيوب بن صابر، وكان له بنت مقعدة، وفي يوم من الأيام تركتها أمها عند السيدة نفيسة وذهبت لقضاء حاجة لها.
لما همت السيدة نفيسة للوضوء لصلاة الظهر، وانساب ماء وضوءها في مجراه، زحفت البنت وأخذت تقلد السيدة نفيسة في الوضوء وما أن لمس ماء الوضوء قدميها؛ حتى شفيت، ونهضت مسرعة تلعب مع أقرانها، فلما رأتها أمها بكت وقالت: لا ريب أن دين هذه السيدة الشريفة هو الدين الحق، ودخلت على السيدة نفيسة ونطقت الشهادتين.
ولما حضر والد البنت ورأى ابنته، قال: سبحانك ربنا تهدي من تشاء وتضل من تشاء، اللهم إني أشهدك أن هذا الدين هو الدين الصحيح، ودخل على السيدة نفيسة وقال: سيدتي ارحميني وتشفعي لي، واشفعي فيمن هو في ضلال الكفر قد تاه، ومن الدين الحق أبعده الكفر وأقصاه، فدعت له بالهداية، فأسلم.
وبعد هذه الأحداث أسلم أهل الرجل من اليهود، وكانوا أكثر من سبعين بيتًا.
واستأذن أبو السرايا السيدة نفيسة أن تنتقل إلى دار له بدرب الكروبين المعروف الآن بالحسينية، ولما علم الناس كرامتها توافدوا عليها بالجموع، فضافت بهم الدار ففكرت في مغادرة مصر والعودة لمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
حاول المصريون إثناءها عن قرارها، لكنها رفضت؛ لأنها وجدت إقبال الناس عليها يشغلها عن عبادتها، فتوجه الناس إلى الوالي السري بن الحكم، فانتقل إليها يستعطفها ويرجوها، وقال لها: إني كفيل بإزالة ما تشكين منه، وسأمهد لك السبيل وأهيئ لك ما فيه راحتك ورضاك، أما ضيق المنزل فإن لي دارًا واسعة بدرب السباع، وإني أشهد الله تعالى أني قد وهبتها لك، وأسألك أن تقبليها مني ولا تخجليني بردها علي، فقالت بعد سكوت طويل: (إني قد قبلتها منك).
ثم قالت: (يا سري! كيف أصنع بهذه الجموع الكثيرة والوفود الغفيرة؟)، فقال: تتفقين معهم على أن يكون للزوار في كل جمعة يومان، وباقي الأسبوع تتفرغين لعبادتك وخدمة مولاك، فاجعلي يومي السبت والأربعاء للناس، فقبلت ذلك وانتقلت إلى داره.
وقيل: إنها رأت جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في المنام يأمرها بالإقامة في مصر، وهذا هو سبب بقائها.
إلى مقعد الصدق
يقول العلامة الأجهوري: إن السيدة نفيسة حفرت قبرها الشريف بيدها، أي أمرت ببنائه حال صحتها لشدة شوقها للقاء خالقها وعدم رغبتها في الدنيا وزينتها، وكانت تنزل فيه للتعبد والتذكر بالدار الآخرة، وكانت تصلي فيه النوافل العديدة؛ حتى قيل: إنها قرأت فيه ستة آلاف ختمة للقرآن، ووهبت ثوابها لأموات المسلمين.
قالت السيدة زينب بنت أخيها: تألمت عمتي في أول يوم من رجب، وكتبت إلى زوجها إسحاق المؤتمن كتابًا، وكان غائبًا بالمدينة، تطلب إليه فيه المجيئ إليها وموافاتها، لإحساسها بدنو أجلها وفراقها لدنياها وإقبالها على آخرتها، وما زالت متوكعة إلى أن كان أول جمعة من شهر رمضان فزاد عليها الألم وهي صائمة، فدخل عليها الأطباء، فأشاروا عليها بالإفطار لحفظ قوتها ولتتغلب على مرضها وضعفها، فقالت: (واعجباه، إن لي ثلاثين سنة، وأنا أسأل الله عز وجل أن يتوفاني وأنا صائمة، أفأفطر؟ معاذ الله تعالى).
ثم أنشدت تقول:
اصرفوا عنــي طبيبي
ودعونـــــــي وحبيبي
زاد بــــي شـوقي إليه
وغرامــــي فـي لهيب
طاب هتكي في هــواه
بين واش ورقيـــــــب
لا أبالي بفـــــــــــوات
حيث قد صار نصيبي
ليس من لام بعــــــذل
عنه فيه بمصيـــــــب
جسدي راضٍ بسقـمي
وجفوني بنحيبـــــــي
فانصرف الأطباء وهم يتعجبون من قوة يقينها وثبات دينها، وسألوها الدعاء، فدعت لهم خيرًا.
تقول السيدة زينب بنت أخيها: ثم إنها بقيت كذلك وقد أفترها الداء إلى العشر الأواسط من شهر رمضان، فاشتد بها المرض واحتضرت، فاستفتحت بقراءة سورة الأنعام، فلا زالت تقرأ إلى أن وصلت إلى قوله تعالى: )لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (الأنعام: 127)، فغشى عليها، فضممتها إلى صدري، فشهدت شهادة الحق، وقبضت، واختارها الله لجواره، ونقلها إلى دار كرامته، وكان ذلك في سنة 208هـ.
وقد أوصت السيدة نفيسة بألا يتولى أمرها غير زوجها، فوصل يوم انتقالها، وتولى ذلك بنفسه، وقد اجتمع المصريون من القرى والبلدان، وأوقدوا الشموع طوال الليل، وسمع البكاء من كل دار.
وهيأ لها زوجها تابوتًا، وقال: إني لا أدفنها إلا بالبقيع عند جدها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، فتعلق به أهل مصر وسألوه دفنها عندهم فأبى، وسأله عبدالله بن السري أمير مصر، وقال له: (بالله لا تحرمنا من مشاهدة روضتها، فإنا كنا إذا نزل بنا أمر جئنا إليها في دارها في حياتها نسألها الدعاء، فما تنتهي من دعائها؛ إلا وقد كشف الله عنا ما نزل بنا، فدعها لتكون في أرضنا، فإذا نزل بنا أمر جئنا إليها فسألنا الله تعالى عندها)، لكنه أصر على نقلها، فجمعوا له مالًا جزيلًا وسألوه البقاء فأبى، فتركوه وباتوا في ألم عظيم، فلما أصبحوا وجدوه قد قبل طلبهم عن طيب خاطر ورد الأموال، فسألوه عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وقال لي: (يا إسحاق! رد على الناس أموالهم وادفنها عندهم).
وكان يوم دفنها في روضتها التي أعدتها بيديها في منزلها بدرب السباع، يومًا مشهودًا، وهو الآن مقام مسجدها، ويحتفل المصريون بمولدها من الأربعاء الأخير في شهر جمادى الأولى – اليوم الذي قبلت فيه البقاء في مصر – حتى الأربعاء الأول في شهر جمادى الآخرة، احتفالًا بيوم الأربعاء الذين كان أحد أيام لقائهم بها.
نختم بقصيدة للإمام المجدد السيد محمد ماضي أبي العزائم رضي الله عنه أملاها حين زار السيدة نفيسة عليها السلام:
نَفِيسَةُ دُرَّةٌ مِنْ كَنْزِ طَـٰــــــــــــــهَٰ
بِعَاطِفَةِ ٱلْعَوَارِفِ قَــــــــــدْ حَبَاهَا
هِيَ ٱلنُّورُ ٱلْمُضِيءُ بِأَرْضِ مِصْرٍ
نَفِيسَةُ دُرَّةٌ رَبِّــــــــــــــي صَفَاهَا
وَمِنْ كَنْزِ ٱلنَّبِيِّ لَقَــــــــدْ أَضَاءَتْ
تَوَسَّلْنَا بِهَا لِلْجَدِّ طَـٰــــــــــــــــــهَٰ
إِلَيْكِ نَفِيسَةُ وَافَيْتُ أَرْجُـــــــــــــو
مِنَ ٱلْمَمْنُوحَةِ ٱلزُّلْفَـــــــــىٰ قِرَاهَا
وَبِي نَسَبٌ بِكُمْ يَاآلَ طَـٰــــــــــــهَٰ
وَحَسْبِي أَنْ أَتَيْتُ إِلَـــــــىٰ حِمَاهَا
أَيَابِنْتَ ٱلْحُسَيْنِ أَبُوكِ حَسَــــــــنٌ
وَنَفْسِي أَقْبَلَتْ بَلَغَــــــــــتْ مُنَاهَا
سَأَلْتُ ٱللَّهَ بِٱلْمُخْتَارِ طَـٰـــــــــــــهَٰ
وَعِتْرَتِهِ ٱلْكِرَامِ وَآلِ طَـٰــــــــــــهَٰ
رِضَاهُ وَفَضْلَهُ حَتَّىٰ أُهَنَّــــــــــىٰ
بِطَيْبَةَ مُكْرَمًا بِصَفَا حِمَاهَــــــــا
وصلى الله على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وسلم.