أخبار عاجلة

لماذا كثر المدعون للنبوة والمهدوية في زماننا؟

إذا كانت القضية تتعلق بالأوهام الدينية، فإن إمام العصر الذي أقامه الله بين الناس هاديًا ومعالجًا، سيكون أدرى الناس بها، وبكيفية علاجها، فماذا قال خاتم الورَّاث المحمديين الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم عن هذا المرض؟....

الدكتور عبدالحليم العزمي

الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية

لماذا كثر المدعون للنبوة والمهدوية في زماننا؟

في الأسابيع الماضية كنت في زيارة لإحدى القرى المصرية، فالتقيت برجل يعمل في بعض أعمال المعمار، شهد الجميع بكفاءته وإتقانه لعمله، لكنهم كانوا يجعلونه محطًّا للسخرية بسبب أقواله.

طلبت منهم أن أجالسه وأستمع إليه، فوجدته يتحدث عن كونه المهدي المنتظر، وأنه يتلقى أوامر مباشرة من سيدنا رسول الله J، وأنه يأمره أن يسير بين الناس وأن يخبرهم بأمور بعينه، ووجدته يشتكي من أن الناس تسخر منه لمجرد ذكر هذا الكلام.

طلبت منه أن يكف عن إخبار الناس بذلك، وأن يركز في عمله، ويترك هذا الكلام؛ حتى لا يؤثر على سمعته بين الناس، فيتوقفون عن التعامل معه، ويخسر مصدر رزقه الوحيد.

هذا الرجل المسكين لم يكن يكذب على من حوله، أو يدعي شيئًا غير حقيقي، لكنه بالفعل يسمع هذه الأصوات ويرى هذه الرؤى، وهذا ليس لكونه نبيًّا ولا مهديًّا ولا وليًّا، ولكنه مريض بمرض شائع اسمه: (الوهم الديني).

هذا المرض ينتج لنا كل فترة نبيًّا جديدًا، مهديًّا منتظرًا، مخلصًا، أو حامل رسالة إلهية، يقول بأنه يأتيه الوحي في المنام، ويوجه تحذيرات إلى البشر باقتراب قيام الساعة، أو على الأقل يضع نفسه فوق مكانة البشر، لا يمكنك رفضه أو الاستهانة به؛ إذ يعتقد أن الله رفعه فوق البشر.. وكل هذا بسبب “مرض الأوهام الدينية”.

الأوهام الدينية ظاهرة نفسية تعد مرحلة متقدمة من الذهان، أو الاكتئاب الذهاني، أو الانفصام.

تشمل الأفكار والمعتقدات والخواطر التي يصر عليها شخص ما بيقين ثابت يقاوم النقد دون أساس واقعي، مع إضافة أحد عوامل الواقعية التي يمكن تعريفها على أساس ديني.

في الأوهام الدينية يتخيل المصاب أنه يسمع أصواتًا أو يرى أشياء خارقة.

بحسب الطب النفسي، تشمل الأوهام الدينية 3 تقسيمات رئيسة:

1- وهم الاضطهاد الروحي: يعتقد المريض أن الأرواح الشريرة / الشياطين تتبع خطواته أو تحاول معاقبته.

2- وهم الخطيئة: يشعر المصاب بالذنب الذي قد لا يكون حقيقيًّا، وأنه مسؤول عن كوارث كبرى ربما لا يملك أي اتصال بها أصلًا.

3- وهم العظمة: يشعر المريض بالاستعلاء، باعتبار أنه مصطفى إلهيًّا، وأن الله رفعه فوق البشر العاديين، فبشره بالجنة بينما سيذهب الآخرون إلى الجحيم، أو أنه نبي، أو يتلقى نوعًا من الوحي الإلهي، أو أنه المهدي المنتظر، أو أنه المسيح بعث من جديد، أو أنه يسمع صوت الله أو أحد الأنبياء أو الصالحين، أو رآهم في المنام أو أثناء الاستيقاظ في نوع من الهلوسة السمعية أو البصرية.

تشخيص الأوهام الدينية

يصعب على الأطباء النفسيين تشخيص مدى اتجاه الفرد إلى مرحلة الأوهام الدينية بسبب العلاقة غير المتجانسة بين التدين والطب النفسي.

لكن، يمكن التشخيص بناء على المعرفة الكاملة بالتاريخ الديني السابق للمريض: إن كان المريض لا يملك خلفية دينية، ثم بدأ فجأة في الالتزام بمظاهر دينية، أو الدعاية الدينية علنًا في محيطه أو ساحات عامة “افتراضيًّا عبر الإنترنت أو في الشارع والجامعة مثلًا”، فهذا قد يعتبر مؤشرًا مهمًّا.

هذه الأعراض لا يلاحظها المريض نفسه؛ لأنه في الغالب يعتبرها “تدينًا عاديًّا” أو محاولة للتقرب من الله.

لكن المحيطين به سيكونون قادرين على رصدها، ولذلك عند التشخيص لا بد أن يستمع الأطباء للعائلة والأصدقاء.

علاج الأوهام الدينية

الأدوية المضادة للذهان أثبتت أثرًا في تخفيف الأعراض لدى نحو 70% من المرضى.

لكن الأمر ليس سهلًا لأسباب:

1- المريض نفسه لا يكون مقتنعًا أنه مريض، بالتالي لا يخضع للعلاج طوعًا.

2- هناك العديد من مضادات الذهان. ويحتاج الطبيب للتأكد من اختبار الدواء المناسب.

3- العلاج النفسي يحتاج فرز التفكير الوهمي حول الدين، في عملية طويلة ومعقدة قد تستغرق سنوات؛ لأنه من الصعب للغاية العودة إلى بنية أكثر عقلانية عن المعتقدات بعد فترة من التفكير اللاعقلاني.

بذلك نكون عرضنا وجهة النظر الطبية حول قضية الأوهام الدينية، وفهمنا التشخيص الطبي لمرض منتشر كثيرًا في هذه الأيام، حتى أن الإمام القائم سماحة السيد علاء أبا العزائم قد روى لنا مرارًا عن مدعي المهدوية الذين جاؤوا إليه وبعضهم طلب منه بيعتهم.. وكل هؤلاء ما هم إلا مرضى نفسيون.

فإذا كانت القضية تتعلق بالأوهام الدينية، فإن إمام العصر الذي أقامه الله بين الناس هاديًا ومعالجًا، سيكون أدرى الناس بها، وبكيفية علاجها، فماذا قال خاتم الورَّاث المحمديين الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم عن هذا المرض؟

مرض الأوهام الدينية في فكر إمام العصر

بداية حذر الإمام أبو العزائم عموم المسلمين من مرضى الأوهام الدينية، واعتبر أنهم دجَّالون يحاولون التأثير في الآخرين ليبعدوهم عن طريق الحق، فقال في كتابه (تفصيل النشأة الثانية)([i]):

[عن أبى هريرة t قال: قال رسول الله J: (لا تقوم الساعة حتى يُبعث دجَّالون كذَّابون قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله)([ii]).

وتلك الفتنة قد شهدناها بأعيننا، ففى الهند رجل يسمى غلام أحمد، ادعى أنه المسيح، وفسَّر القرآن بهواه، فجعل الإنجليز فى الهند هم أولو الأمر تجب طاعتهم، وقام ابنه ومعه دعاة إلى هذا الفساد، وقد رأيته بمصر مع دعاته فتذكرت هذا الحديث الشريف.

وقام رجل فى كردفان -من أعمال السودان- يدعى أنه عيسى، بعد موت محمد أحمد السودانى الذى كان يدعى أنه المهدى المنتظر. ولكن الإنجليز فى السودان لما علموا أنه يبغِّض السودانيين فيهم باغتوه فأطفأ الله نار الفتنة، طهر الله البلاد من سلطة الأعداء وفتن الممرورين. وقد انتشرت تلك الفتن الآن علامة على قرب القيامة، فعلى كل مسلم أن يتمسك بالدين، ولو كان فى تمسكه ما لا قبل له به من المتاعب فى هذا الزمن المظلم].

شروط الطبيب المعالج:

ثم قام الإمام بصفته طبيب النفوس الأكبر في هذا العصر بالحديث عن أمراض النفوس في كتابه (مذكرة المرشدين والمسترشدين)، فقال عن المريد: (وإن كان حصل منه أمر دعاه إليه مرض في النفس من أمل أو طمع أو حرص أو حب  علو في الأرض، أو تكاثر في الدنيا أو لسبب من أسباب المعاصي، كمجاورة من يفسد عليه حاله، أو نيل رزقه على يد قوم يسببون له أمراض النفس، أسرع إلى الطبيب الحاذق بأمراض النفس وهو المرشد الحقيقي، فرفع إليه الأمر بدون أن يستحي أو يخجل كما يكشف الرجل عورته والمرآة عورتها على الطبيب ليعرف المرض ويعالجه ويُفهم المرشد أنه يريد النجاة بأي دواء، فإذا كاشفه بحقيقة الأمر وظهر له أسباب المرض أمره بالعلاج النافع والدواء الناجع، فقبله منه فرحًا؛ لأنه وجد لمرضه دواء، وأسرع إلى استعمال الدواء مبادرًا بدون تأن ولا تأويل، هذا هو الواجب على المريد، ومن كان هكذا في بدايته فاز بأمرين عظيمين:

الأمر الأول: أنه يكون طبيبًا حاذقًا.

الأمر الثاني: أنه يكون وارثًا من ورثة الرسل – عليهم الصلاة والسلام – متصفًا بصفات التوابين المتطهرين، منعمًا عليه بمحبة الله تعالى)([iii]).

بذلك وضع الإمام شرطين أساسيين لعلاج أمراض النفوس، هما: أن يكون الطبيب وارثًا من ورثة المصطفى J، وأن يكون طبيبًا حاذقًا، يعرف النفوس وأمراضها وعلاجاتها.

علامات أمراض النفس:

قال الإمام أبو العزائم: (هل لأمراض النفس علامات؟ .. نعم لها علامات، كما أن لأمراض الجسم علامات، فإنك ترى الجسم إذا مرض فإنه قد يتغير عقل  المريض، ولا تكون آراؤه صحيحة، وقد يعتريه النسيان والذهول وإنكار نفسه وأقاربه وأهله وتلك من مرض الجسم.

وكذلك إذا مرضت النفس بعشق شهواني، أو بعمل معاصي شهوانية، أو بغلّ وحسد، أو مرضت النفس بمرض الغضب والحماقة، أو بالحزن أو بغير ذلك، فإن الجسم يصفر ويرتعد ويضعف، وتنقص قوته وتقل شهواته، كما قدمنا من أن قوة العقل والفكر تضعف بضعف البدن، كذلك يضعف الجسم بمرض النفس، وأمراض النفس لا تخفى على  المتوسمين)([iv]).

سبب أمراض النفوس:

وأما عن سبب أمراض النفس، يقول الإمام: (تمرض النفس لأمرين عظيمين:

الأمر الأول: اختلاف تركيب الجسم أو فساد المزاج.

الأمر الثاني: من سوء الاعتقاد والعياذ بالله تعالى)([v]).

أنواع تلك الأمراض:

وتحدث الإمام عن هذه الأمراض وأنواعها فقال:

أولًا- أنواع اختلاف التركيب وسوء المزاج:

1- فساد الرأي.

2- البله.

3- الحيرة في الأمر البسيط.

4- ضعف الذاكرة.

5- عدم الفكر في غد.

6- التهيج مما لا يتهيج منه.

7- الغلو في كل شيء حبًّا أو بغضًا، مدحًا أو ذمًّا.

8- الشره.

9- فساد التخيل وهي أهمها.

ثانيًا: أنواع فساد النفس من جهة فساد العقيدة:

1- الجدل.

2- إنكار غير المحسوس.

3- الشك في يوم القيامة.

4- حصر الملاذ في تلك الحياة الدنيا.

5- الحرص على الدنيا.

6- حب المرء ذاته حبًّا يجعله يعق والديه، يقطع الرحم، يسيء إلى المحسن، يتمنى زوال نعم غيره ونوالها لنفسه.

7- البخل بالمال؛ حتى على النفس.

8- ومن أمراضها بذل الفضائل لاكتساب شهواتها.

9- التجرد من الحياء.

10- التهكم بالعلماء العاملين والعباد الزاهدين.

11- تقبيح مجاهدة النفس وحبسها عن الشهوات والرذائل.

12- غلوه في الحب لذاته غلوًّا يجعله يرى كل ما هو عليه فضائل وكمالات، وإن كانت من أرذل الرذائل.

13- التلذذ بفعل الفواحش والمنكرات.

14- الفرح بالانتقام والأذية.

15- ومن أمراضها: الجبن لخوفه على نفسه من الموت، لاعتقاده أنه يموت ويفارق الملاذ والكرامات.

16- اليأس عند أقل مؤلم.

17- القنوط عند فقد الأسباب لجهله بالله تعالى.

18- ومن أمراضها التملق والتذلل عند الاحتياج، والغرور والطيش والكبر عند عدم  الاحتياج لجهله بالمستقبل.

19- ومن أمراضها: الكذب تخلصًا من المؤلم، أو انتقامًا من عدو جهلًا بيوم الحساب.

20- الغيبة والنميمة للإفساد بين الناس لينال خيرًا لنفسه.

21- ومن أمراضها التجمل للخلق، والغفلة عن تجمل السريرة للحق؛ لأنه لم يؤمن بيوم القيامة.

22- ومن أمراضها: الذل والتملق لمن يظن أنه ينفعه أو يضره في دنيا، والمسارعة إلى رضاه ولَوْ في معصية الله لسوء ظنه بالرزاق المقدر؛ حتى قد يبلغ به أن يستعمله من له عليه نعمة أو رياسة في عمل أكبر الكبائر، كأذية الخلق أو شهادة الزور أو التجسس والتحسس، أو الاشتراك معه في عمل الفواحش وارتكاب الرذائل، ويفرح المسكين بذلك ويرى في نفسه أنه وثق برزقه وضمن سعادته وأذل عدوه ونفع حبيبه، وينسى أنه سقط إلى مكان سحيق وانحط عن المرتبة الإنسانية إلى أقل من رتبة الحيوانات الداجنة، واستحق مقت الله وغضبه وأليم العذاب يوم القيامة)([vi]).

علاج تلك الأمراض:

وعن علاج هذه الأمراض يقول الإمام أبو العزائم: (أولًا: علاج الأمراض الناتجة عن اختلاف التركيب أو انحراف المزاج:

1- أهم علاج لاختلاف التركيب:

فأهم علاج لاختلاف التركيب أن يعتني بالطفل من صغره، فيعلم ما يستطيع تعلُّمه من الحروف النافعة لمعاشه التي تستغرق وقته نهارًا في شغل، ثم يلقن أركان الإيمان وأركان الإسلام، ثم تفصل له – من أركان الإيمان – الآخرة بمُثُلٍ تنقش في نفسه من صغره، تجعله يشتاق إلى النعيم فيعمل لنواله، ويخاف من العذاب فيتباعد عما يوقعه فيه، ثم يُمرَّنَ على الأعمال الواجبة شرعًا من الصلاة وغيرها من أول ما تندب عليه، ويحافظ عليه من صحبة الأشرار والفجار ليكون أبعد عن موجبات أمراض نفسه المفطور عليها.

ومثل هذا لا دواء له إلا الرضا منه بما أهل له، وعدم مطالبته بما لا طاقة له عليه، من أعمال الفكر والتدبير والتبحر في العلم، وخير له أن يعيش بين نظرائه في العلم والفكر بشرط أن يكونوا أتقياء، وأن يكلف بكثرة الأذكار والأعمال البدنية ليشتغل بها عما يوقعه في المرض، كما يتحفظ على الأطفال والصبيان من الوقوع فيما يضر أبدانهم.

2- علاج أمراض النفس الناتجة عن انحراف المزاج:

تقدم بعض أنواع تلك الأمراض وأهم علاج لها العناية باعتدال الأمزجة، ورد الصحة على الجسم، وهذا منوط بفن الطب الجسماني.

ثانيًا: علاج أمراض النفس الناتجة عن فساد الاعتقاد:

اختلف العلماء في هذا الموضوع، فمنهم من رأى أن الإنسان يتخذ له صاحبًا يسأله عن علوم نفسه، وليست هذه بالطريقة المهيئة للشفاء، واستحسن بعضهم أن يعلم عيوبه من عدوه، وإني أرى أن هذا الدواء لا ينفع إلا للأخيار؛ لأنه لا ينتفع من عدوه إلا الرجل التقي الورع، وأرى أكثر الناس يتغالى كل واحد في إذلال عدوه، ونسبة عيوب له ليست فيه لمهانته وعداوة الناس له. ولذلك فليس هو الدواء الوحيد إلا للكامل العالم الذي إذا سمع عدوه ينسب إليه عيبًا من العيوب بادر بمحوه واستبداله بفضيلة ومكرمة، كما إذا رأى في عينيه قذى أو على وجهه أوساخًا بنظره في المرآة، بادر إلى نظافة وجهه، وإني إذا تكلمت في هذا الموضوع فإنما أتكلم عن تجربة في نفسي، ومعرفة بآداب أهل التقوى والصلاح من السلف وممن عاصرتهم، وعن خبرة ومزاولة لأمراض النفوس وأخذ في علاجها.

لما كان علم الطب الجسماني يراد منه أمران: حفظ الصحة وردها إذا فقدت، وكان  حفظ الصحة على الجسم يقتضي التوسط فيما لا بد منه للجسم، والمحافظة عليه مما لا يتحمله، والعناية بمواد الأغذية من جهة النظافة والجودة والسهولة والمقدار، ومراعاة الوقت المناسب، والبعد عن المؤثرات الشديدة، كل تلك لازمة لحفظ الصحة الجسمانية، فكذلك ينبغي لصحيح النفس أن يجتهد في حفظ صحتها عليها، باستعمال ما أوجبه عليه الشرع بنسبه ومقاديره في أوقاته، من عبادات وأخلاق واعتقادات ومعاملات بحيث لا يتهاون فيسبب مرض النفاق والقطيعة والبعد، ولا يتغالى فيقع في الفتن والضلال ﴿ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ (الفرقان: 67) وأن يتباعد بكل ما في وسعه عن المبتلين بالأمراض النفسانية، كأهل الجدل والإنكار والفساد وغيرها، وعن أهل الشغف بالملاذ الحيوانية، وعن مطالعة سيرهم وأخبارهم، ويتباعد عن أهل الخبث المفسدين وأهل الشر المضلين، فإنه قد يقع في أمراضهم من حيث لا يشعر بمجرد مجالستهم، وذلك لأنه لصحة نفسه أول ما يقع نظره عليهم يرى فيهم علامات الأمراض والسقم، كما يحس الإنسان من الآخر بمرض الجسم بعلامات المرض، فكذلك صحيح النفس إذا جلس مع مريضها أنكر عليه، ومريض  النفس يرى أن الصحيح الحقيقي مريض فيحصل الإنكار من كل على الآخر فيكون بمجرد جلوسه معه مرض بمرضه، فعلى صحيح النفس أن يتباعد عن مرضى النفوس؛ إلا إذا جاءه مريض النفس فشكى إليه مرضه، وطلب منه دواءه)([vii]).

الوقاية خير من العلاج:

ولم يكتفِ الإمام بعلاج الأمراض، بل حث الناس على الحفاظ على صحة نفوسهم، فقال: (ومن العجب أن الرجل الصحيح النفس يهمل صحته؛ حتى يقع في الأمراض؛ لأن أمراض الأجسام يشعر صاحبها بألم يدعوه إلى الطبيب، وأما أمراض النفوس فقد يحصل منها اللذة للنفس والأنس لها؛ لأن غالب أمراض النفوس مما يلائم النفوس، فينسى الرجل قبائحه ويغفل عن دواء نفسه، وإذا ذكره أخوه بعيوب نفسه قذفه وعاداه وهو يظن – المسكين – أنه على أكمل الفضائل وأجمل الأخلاق، ناسيًا أمراض نفسه لحبه   لنفسه، فتجب العناية بحفظ الصحة على النفس خشية من الوقوع في المرض.

فإذا حصل للنفس مرض من الأمراض السابقة فعلاج ذلك محصور في أمرين أساسهما العلم:

الأمر الأول: أن يبادر من حصلت منه المخالفة للمرشد – إن كان مسترشدًا – فيعرض عليه أمره، ثم بعمل مَا يكلفه به مما هو شفاء لنفسه، وتوبة من ذنبه، غير خجل ولا مستتر، فإن أصحاب رسول الله J كان الرجل منهم إذا نسى أو أخطأ رفع الأمر إلى رسول الله J، وقام فنجز ما يكلفه به، فمنهم من يقول: زنيتُ يا رسول الله، وغير ذلك مما قلَّ أو كثر. فإذا خجل المخالف، أو رأى أن رفع الأمر للمرشد فضيحة تهاون بيوم القيامة وجهل الفضيحة فيه، ودعاه التساهل بصغير المخالفة إلى الوقوع في كبيرها؛ حتى قد تبلغ به الحالة إلى أن يترك عمل الواجبات. أما إذا كان ليس له مرشد بأن كان من  العلماء، أو كان من القائمين بالدعوة إلى الله، فالواجب عليه إذا رأى نفسه أوقعته في  الحماقة والغضب والعداوة بين الناس، أن يبادر بأن يتعرض لسفيه أحمق يسبه أمام الناس ويتحمل ذلك ويفرح، ليعالج نفسه ويرد عليها صحتها، أو يبادر بأن يبذل نفسه لمن كان يعظمه ويقبل يده ويخدمه، ويتوب مجاهدًا بترك تلك الصفة القبيحة، وإن شعر منها بحب الشهرة والسمعة بادر بأن يعرض عليها مبدأها ونهايتها وحقارة الدنيا وزوالها .

الأمر الثاني: وأكمل دواء للنفس المبادرة بتلقي علوم الدين من أهل اليقين، الذين يعلِّمون الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعونهم إلى الله على بصيرة، ويجعلون أساس دعوتهم كشف عناية الله بهم وإظهار آياته في الآفاق وفي أنفسهم بطريق مقنع، ويبينون أسرار الصورة الإنسانية، وما احتوت عليه من غرائب الحكمة وعجائب القدرة، وكيف كان مبدؤها من آيات القرآن بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ (المؤمنون: 12). ويتباعد في الدعوة عن غير ذلك بذكر عناية الله تعالى وإبداعه للعالم كله، وهو الأمر الجامع؛ حتى إذا اطمأنت القلوب وانشرحت، دعاهم بعد ذلك إلى التصديق بالآخرة ويبين لهم حقارة الدنيا وزوالها، ودعاهم لمعرفة أنفسهم وما به تكميلها وسعادتها .. وهذه هي طريق القرآن في الدعوة، وسبل رسل الله صلوات الله عليهم في الدلالة والبيان.

فاقرأ أيها الأخ البار كتاب الله متدبرًا، وتأمل قصصه متفكرًا، واعتبر بتكرار أخبار الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأساليب البيان، وحكم التبيان الجلية لكل ذي بصيرة  في كل مكرر القرآن، يظهر لنور سرك ساطع حجج القرآن الكريم، وجليّ نور براهينه، وما حث فكرك عليه، وما نبه قلبك إليه، وما دعاك إلى تدبره والنظر فيه من الآيات الدالة على كمال عنايته، والحجج المؤيدة أنه هو المبدع الخلاق.

فإذا زكت نفسك أيها الأخ المؤمن، وتناولت من سلسبيل القرآن الشريف، ومن كافور كلام رسول الله J سكنت نفسك، واطمأن قلبك، وانشرح صدرك، ودعاك سرك دعوة الحق إلى الحق، وانكشفت لك سيما الناس، فعلمت بسيماهم مقادير استعدادهم وفطر نفوسهم، فدعوت عباد الله إلى الله بالحكمة والموعظة على قدر النفوس  ومناسبات العقول، ناهجًا على الطريق المستقيم، لا تميز بين المسلم وغيره مادمت تجعل أساس دعوتك طريق القرآن العظيم)([viii]).

أسباب مفسدات النفس:

ويختم الإمام حديثه بإيضاح أسباب مفسدات النفس، فيقول: [اعلم أيها الأخ – روَّحني الله وإياك بروح العناية والولاية وريحان الإحسان    والرضوان – أن أمهات الخطايا التي بها لُعِنَ إبليس، وأُخرج أبونا آدم من الجنة، وَقَتل قابيل أخاه هابيل ترجع إلى أصول الكبائر وهي:

1- الكبر: الذي أوقع إبليس في القطيعة واللعنة.

2- الطمع: الذي هو سبب المعصية لأبينا آدم، وأُهْبِطَ بسببه من الجنة؛ لأنه طمع في الخلود في الجنة.

3- الحسد: الذي دعا قابيل أن يقتل هابيل حسدًا له على النعمة عليه بأخت قابيل .

وما من رذيلة من الرذائل إلا وهي ترجع إلى أصل من تلك الأصول، فإذا حفظ الله  العبد من تلك البليات الثلاث وفروعها كان وهو في الدنيا من أهل الآخرة، وقد بين لنا رسول الله J تلك المعاني بكلمة هي الحصن الحقيقي للسلامة بقوله J: (حبُّ الدنيا رأسُ كُلِّ خطيئةٍ)([ix])] ([x]).

أسأل الله تعالى أن يكشف لقلوبنا حقيقة الجمال الربانى، الذى به ننجذب بكليتنا إلى الرضوان الأكبر.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله أجمعين.

===============================

([i]) تفصيل النشأة الثانية، ط3 ص86 – 87.

([ii]) رواه مسلم 8/189، رقم 7526.

([iii]) مذكرة المرشدين والمسترشدين، ط2، ص121 – 122.

([iv]) السابق ص122.

([v]) السابق.

([vi]) السابق ص122 – 124.

([vii]) السابق ص124 – 126.

([viii]) السابق ص126 – 127.

([ix]) رواه ابن أبي الدنيا في الزهد ص212 ح497.

([x]) مذكرة المرشدين والمسترشدين ص128.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …