يمكن تحديد أبعاد تجديد الخطاب الديني في ضوء ما أسفرت عنه وثيقة الأزهر الشريف لتجديد الخطاب الديني في يونيو (2011م)…
الأستاذ الدكتور بليغ حمدي
بقية: جهود الدولة في تجديد الخطاب الديني
بقية: 4 ـ أبْعَادُ الخِطَابِ الدِّينِيِّ المُعَاصِر:
يمكن تحديد أبعاد تجديد الخطاب الديني في ضوء ما أسفرت عنه وثيقة الأزهر الشريف لتجديد الخطاب الديني في يونيو (2011م)، ووثيقة تجديد الخطاب الديني الصادرة عن وزارة الأوقاف المصرية في (2015م)، وكذلك القانون رقم (51) لسنة 2015م الصادر عن السيد رئيس الجمهورية، على النحو الآتي:
أ- اقتصاد الدعوة في الغيبيات: وذلك من أجل إراحة العقل من الدخول في تفاصيل قد تؤدي إلى كثير من الغموض والالتباس، والاكتفاء بالإجمال في معرفة الغيبيات للإيمان بها، مع النهي عن التفكير في دقائق ما يطلب الإيمان به. وهذا يتطلب من الخطاب الديني أن يعمق الإيمان بالغيب وبالآخرة. ويتضمن هذا البعد أيضًا عدم تورط الإسلام في فرضيات العلم النسبية، بمعنى عدم إقحام النص القرآني لتفسير نشأة الحياة على الأرض كما يصفها العلماء وظهور الإنسان الأول وما مر به من أدوار.
ب- الاجتهاد وفق الأصول: بمعنى جعل الاجتهاد العقلي أساسًا للحياة الإسلامية وفق ضوابط النص القرآني والسنة النبوية؛ بحيث يكون هذا الاجتهاد سيلًا للوفاء بجديد حاجات الحياة نفسها. ولا بد وأن يرتكز الخطاب على السند الشرعي والأدلة الوجوبية من القرآن والسنة. والإسلام حين أقر مبدأ الاجتهاد فإن ذلك جاء انطلاقًا من حقيقة مفادها أن الحياة متجددة ومتطورة باستمرار.
ت- شمول الرؤية المعرفية في التناول: بمعنى أن الخطاب الديني يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية مختلفة: أخلاقية، وسياسية، واقتصادية، وجمالية.
ث- التنمية المستدامة: ينبغي أن يتضمن الخطاب الديني قوة هائلة إيجابية تشحذ طاقات الفرد للبناء والإعمار والإنتاج، والإخلاص في العمل وتنمية المجتمع.وهذا البعد يؤكد عالمية الإسلام وشمولية دعوته وخالدية شريعته وتكفلها بإيجاد حلول شرعية لكل ما هو جديد.
ج- نبذ العنف والغلو في التكفير: من أبرز أبعاد تجديد الخطاب الديني المعاصر نبذ العنف وتأكيد قيمة الحوار وترسيخ أدب الاختلاف في الرأي، بحيث يتم التمسك بالطرائق السلمية في التغيير، والتحول من فكرة تفجير الجسد إلى تفجير طاقات العقل، مع نبذ فكرة الغلو في تكفير الفرد والمجتمع.
خ- التوازن والوسطية: ويقصد به التوازن في المزج بين العلم والفكر والعاطفة عند تناول القضايا المعاصرة، والتوازن في تناول حاجات المجتمع وفق أولويات تلك الحاجات، فضلًا عن التوازن على مستوى اللغة المستخدمة في الخطاب الديني..
د- منهج عرض الخطاب: بحيث ينبغي أن تتوافر في الخطاب الديني المعاصر مجموعة من السمات التي تجعله يحقق أكبر عدد ممكن من أهدافه في فهم الإسلام الصحيح ومنها:
ـ التنظيم والترتيب المنطقي في عرض الأفكار.
– الاقتصاد في التعبير منعًا للملل أو الغموض والإبهام في الفهم.
ـ الفصل بين القول وحجته.
– الربط بين الأسباب والمقدمات والنتائج.
ـ التركيز على المصطلح وضبطه.
ذ- تأكيد مقاصد الشريعة الإسلامية: يقصد بالمقاصد الشرعية المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها. ويعني التركيز على أهداف الشريعة الإسلامية وما تحققه للفرد والمجتمع من نفع وحياة كريمة، ورفض الوقوف على ظاهر النصوص وحرفيتها. وهذا يقتضي من الخطابِ الدينيِّ تفعيل فقه مقاصد الشريعة الكلية في فهم النصوص، والعناية بسياقات النصوص والفهم الدقيق للغة العربية. وما من فعل أمر به الله ـ عز وجل ـ أو أذن به إلا وكان فيه النفع والفائدة والخير وتحقيق المصلحة، ومن ذلك التعليل في إرسال الرسلِ، يقول تعالى: )رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا( (النساء: 165).
التوجهات المعرفية المعاصرة
يقصد بالتوجهات المعرفية المعاصرة مجموعة الأفكار والمعتقدات في موضوع معين والتي تتسم بالثبات النسبي، وتنسجم مع متطلبات وإحداثيات العصر، وهي التوجهات اللازم تضمينها في المقررات الجامعية وتشمل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية والثقافية المعاصرة.
ومصطلح التوجهات المعرفية المعاصرة من المصطلحات المثيرة للجدل فيما يسمى بعلم المستقبليات الذي استأثر بالاهتمام مع انعطافة لنهايات القرن العشرين؛ استجابة لما تثيره من مشكلات وقضايا تفرز أسئلة تبحث عن إجابات شافية ووافية لها.
1- التوجه المدني / المواطنة: ويهتم هذا التوجه بالتربية من أجل المواطنة، وهي قضية مهمة مطروحة منذ سنوات وآن للتربية أن تهتم بتكريس ثقافتها وتعزيز المفاهيم المتضمنة فيها، ويستهدف هذا التوجه إرساء قيم المواطنة وتعميقها لدى أفراد المجتمع، وتمثل المواطنة نمطًا معينًا للعلاقات بين الأفراد في المجتمع، ومن ثم ينبغي على التربية أن تعالج ضمن مقرراتها هذا التوجه وما يترتب عليه من حقوق وواجبات، لاسيما وأن التربية المعاصرة تستهدف التأكيد على الهوية الوطنية لدى الأفراد في إطار ثقافي واجتماعي وسياسي.
2- التَّوَجُّهُ العَالَمِيُّ: يشير التوجه العالمي إلى كل ما يدور حول دول العالم الأخرى غير الدولة الأم من موضوعات وقضايا، ويسعى هذا التوجه إلى أن يفهم الشعوب بعضها البعض؛ من أجل شراكة فاعلة ونشر المحبة والتعاون والألفة والتسامح بين شعوب العالم.
3- التَّوجُّهُ الاجتِمَاعيُّ: يشير علماء الاجتماع إلى حقيقة مفادها أن الميلاد البيولوجي للفرد ليس أمرًا حاسمًا في وجوده، لكن يظل العامل القاطع هو ميلاده الاجتماعي الذي يتحقق عن طريق الزواج وتكوين الأسرة (أورنيستن Ornstein، 1981م). لذلك تعد التربية الأسرية من أبرز العوامل وأهمها في تكوين شخصية المتعلم. ويشمل التوجه الاجتماعي العديد من القضايا والمشكلات التي ينبغي للمتعلم الوعي بها وإدراكها مثل الزواج العرفي وزواج المتعة والعلاقات خارج سياق الزواج الشرعي، وجميع ما سبق مشكلات تعصف بالمجتمع الإسلامي، وواجب التربية الاجتماعية أن ترمي إلى إحداث أكبر قدر ممكن من التغيير والتهذيب والتعديل في سلوك المتعلمين وإبراز خطورة هذه الظواهر الطارئة على المجتمع المسلم.
4- التَّوجه الاقتصادي الاستهلاكي: من أبرز ظواهر النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرة العولمة، و ” أم القضايا في عصرنا، لما تثيره من أسئلة، وتوظفه من برامج اقتصادية، وتحرره من مخططات استهلاكية سابقة، وتبرره من سياسات، وبما أننا كعرب معنيون شئنا أم أبينا، بالتحديات والمخاطر التي تنذر بها، وبالنظر إلى حلولها لدينا على أنقاض الأحلام والمشروعات الكبرى “.
5- التَّوَجُّهُ الصِّحِّيُّ البيئي: للصحة أهمية كبيرة في حياة الإنسان، وهي إحدى مقومات الحياة السعيدة للفرد والمجتمع على السواء، ولكي يتجنب المرء المشكلات والأزمات الصحية عليه أن يكتسب مجموعة من المعارف والحقائق الصحية العامة التي ترتبط بصحته وتجعله أكثر اندماجًا مع مجتمعه بصورة فاعلة.
6- التَّوجُّه العِلْمِيُّ: يعتبر التوجه العلمي التكنولوجي من أبرز التوجهات المعرفية المعاصرة نظرًا لأهمية العلم وتطبيقات التكنولوجيا في حياتنا، وأصبحت الحاجة اليوم ملحة للتعامل مع المستجدات العلمية والتقنية.
7- التَّوَجُّهُ الفِكْرِيُّ الثَّقَافِيُّ: لقد أفرزت العولمة أنماطًا متباينة من الثقافة، ومن الخطابات الثقافية المتعددة والمتنوعة، ولا شك أن البعد الثقافي من أكثر أبعاد ظاهرة العولمة وضوحًا بالنظر إلى فرص انتشاره، لا سيما فيما يتعلق بتقنيات الاتصال وقلة خضوعه للتنظيم والرقابة. ويمكن اعتبار الثقافة المنظومة المتكاملة التي تتمثل في طريقة الحياة في المجتمع، وهي بذلك مجموعة مختلفة من أنماط السلوك والتفكير من أجل تحقيق التوافق مع المجتمع، وتدخل في ذلك المعارف والمهارات والاتجاهات والتوقعات التي يكتسبها أفراد المجتمع ويتناقلونها.