لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود مما خلقه في الأرض والسماء وما فيهما، خلقه الله ليعمر به ملكه وملكوته، وجعله خليفة عنه في أرضه، والخليفة في الأرض هو سيد مَن في الأرض ومَن في السماء، وجعل له ملك الأرض مقرًّا للإقامة ومستقرًّا له بعد موته، ثم ينشئه النشأة الثانية، فيمنحه الملك الكبير.
لذلك ابتلاه الله تعالى بأن سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وصرَّفه تصريف الربوبية في المُلْك، فكل ما في المُلْك والمَلَكُوت مسخَّر له بإذنه تعالى.
السيد أحمد علاء أبو العزائم
نائب عام الطريقة العزمية
بعض اليهود أنكروا وجحدوا وكفروا:
إلا أن بعض اليهود أنكر وجحد وكفر كما جاء في قصة كعب بن الأشرف ودوره في رد الناس عن الإيمان بسيدنا رسول الله، فقد قدم أحبار اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن الرُّوح، وعما ينزع بالولد إلى أمه أو إلى أبيه، وعن أول طعام أهل الجنة، فأخبرهم صلى الله عليه وآله وسلم، فاعتقدوا أنه المنعوت في كتابهم وقاموا من بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم وقلوبهم منجذبة إلى الإسلام.
ثــم تـوجــهـــوا إلـى كـعـب بــن الأشرف – وهو أغنى اليهود، وكان يعطيهم أوسقًا من التمر صدقة -، فلما حضروا عنده غضب عليهم وأخبرهم أنه حرمهم من عطاياه، فسألوه عن سبب ذلك فقال لهم: لأنكم صدقتم هذا الساحر، فسلب الطمع إيمانهم وقالوا: لا .. إن نبي آخر الزمان من ولد إسحاق، وإنا لم نر في كتبنا ذكر محمد ولا أن إسماعيل يلد نبيًّا.
وأخذوا أوسق التمر وسافروا، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وكذبوا على الله وعلى نبيهم موسى عليه السلام، وأمثال هؤلاء الأحبار هم الذين يعنيهم الله تعالى بقوله: )وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (البقرة: 146).
وعن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر ابن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته!.
فقال سَلام بن مِشْكَم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم!، فأنـزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: )وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ( (البقرة: 89).
وعن قتادة قال: كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم على كفار العرب من قبل، وقالوا: اللهم ابعث
هذا النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة.
وقال ابن وهب: سألت ابن زيد عن قول الله U: )وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ( (البقـرة: 89)؛ قال: كانت يهود يستفتحون على كفار العرب، يقولون: أما والله لو قد جـاء الـنـبي الذي بشر به موسى وعيسى؛ أحمد، لكان لنا عليكم!، وكانوا يظنون أنه منهم، والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به، ويستنصرون به، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وحسدوه، وقرأ قول الله جل ثناؤه: )كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ( (البقرة: 109)، قال: قد تبين لهم أنه رسول، فمن هنالك نفع الله الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أن نبيًّا خارج.
وقال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هُزمت يهود، فعادت يهود بهذا الدعاء وقالوا: إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا تنصرنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفروا.
تمني هرقل أن يتبع النبيَّ الخاتم
عن عبد الله بن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء.
فدعاهم إلى مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟، فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم به نسبًا، فقال: ادنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه.
قال: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا عليَّ كذبًا لكذبت عليه.
ثم كان أول ما سألني عنه أنه قال: كيف نسبه فيكم؟، قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟، قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟، قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟، قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟، قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟، قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، قلت: لا، قال: فهل يغدر؟، قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، – قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة -.
قال: فهل قاتلتموه؟، قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟، قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟، قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه؛ فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟؛ فذكرتَ أن: لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟؛ فذكرت أن: لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟؛ فذكرت أن: لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله U.
وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟؛ فذكرت: أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟؛ فذكرتَ أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟؛ فذكرتَ أن: لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب.
وسألتك: هل يغدر؟؛ فذكرتَ أن: لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم؟؛ فذكرتَ أنه يأمركم أن تعبدوا الله عز وجل ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه “تجشمه: اِخْتَارَهُ وَقَصَدَهُ”، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ: مِن محمدٍ عبدِ اللهِ ورسولِهِ إلى هرقل عظيمِ الروم، سلامٌ عَلَى مَن اتبعَ الهُدَى، أما بعد فإني أدعوكَ بدعايةِ الإسلامِ، أسْلِم تسلَم يؤتِكَ اللهُ أجرَك مرتين، فإن توليتَ فإن عليك إثم اليريسين، ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنًا أنه سيظهر؛ حتى أدخل الله عليَّ الإسلام.
وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يومًا خبيث النفس، فقال له بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك، قال ابن الناطور: وكان هرقل حزّاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟، قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود.
فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟، فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب: فقال: هم يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية – وكان نظيره في العلم -، وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه نبي.
فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة “صومعة أو قرية” له بحمص؛ ثم أمر بأبواها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلتُ مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم؛ فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
يظهر لنا من هذا: أن قيصر كان عالمًا بأسرار الإنجيل ومتحققًا أنه مبشر برسول من أبناء إسماعيل، وكان عالمًا بالبشائر به صلى الله عليه وآله وسلم من التوراة، فلما تناول كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطمأن قلبه، ولكن تثبت بما تقدم من الحوادث، وأراد أن يكون أول الناس اتباعًا لهذا الرسول العظيم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأن يكون سببًا لسعادة أمته.
ولكن رؤساء الدين أبوا عليه ذلك وهموا بقتله حرصًا على السيادة كحرص اليهود عليها عندما هموا بقتل المسيح، فأذلهم الله ونجاه منهم ورفعه إليه، فلعن الله الطمع فيما يزول والغرور بما يفنى، فإن أفرادًا قليلين يطمعون في السيادة فيوقعون الأمة الكثيرة العدد في الهاوية قرونًا طويلة.