أخبار عاجلة

أبو الحسن الشاذلي.. الصوفي المجاهد إمام السائرين إلى الله (11)

كان الشاذلي يأخذ عن رسول الله J ويستمد منه وكان يقول: (والله لو حجب عني رسول الله طرفة عين؛ ما عددت نفسي من المسلمين). وقال نفس العبارة خليفته أبو العباس المرسي بعد ذلك حين ورث حاله..

الأستاذ صلاح البيلي

الجانب العملي من حياة الإمام الشاذلي

سعى في قضاء مصالح العباد لدى السلاطين والولاة، وكان كثير الشفاعة في الضعفاء والمظلومين والمساكين.

كافح وكان عصاميًّا أكل من كسب يده، فكان يزرع الأرض ويربي الثيران ويركب الفرس ويلبس أجمل الثياب، ويأكل أطيب الطعام، ويقول لمريده: (اعرف الله وكن كما شئت).

جاهد مع الجيش في معركة المنصورة ضد حملة لويس التاسع الصليبية وكان يحث المسلمين على الجهاد، رغم أنه كان في آخر عمره وكان كف بصره، وقد بشره النبي بالنصر في الرؤيا.

وقف على باب الحرم من أول النهار لمنتصفه عاري الرأس حافي القدمين؛ حتى أذن له النبي في الزيارة وسمعه يقول له: ادخل يا علي.

شهد له أكابر الشيوخ بالقطبانية، وربى رجالًا نشروا الهدى في أرجاء المعمورة وفي كل عصر.

عرفنا الشيخ أبا الحسن الشاذلي العالم الرباني والمتصوف الولي، والمجاهد ضد الصليبيين، وفي هذا المقال نقف على الجانب العملي في شخصيته، وأقصد به طلبه للرزق، وسعيه عليه، وكراهيته للبطالة بحجة العبادة، ونستكمل ما بدأناه من سيرته العطرة، ونعرف لماذا أخذ نفسه بالعمل الشاق لكسب عيشه من زراعة وحرث ودرس للحصاد، يقول أبو الحسن: (لكل ولي حجاب، وأنا حجابي الأسباب)، يقصد رضي الله عنه أن لكل ولي ستر يستره الله فيه من اعتقاد الناس فيه.

ويقول ابن عطاء الله: (وكان الشيخ أبو الحسن يكره المريد المتعطل، ويكره أن يسأل تابعه الناس، وكان جوادًا بما يملك، وكريمًا يكره البخل، ويحث على طرق باب الأسباب والعمل).

ويتحدث أبو الحسن لأحد أصدقائه في خطاب له فيقول: (وسبب الإمساك في العادة – يقصد عن السفر – زرع لنا يدرس قد حرث لنا في ثلاثة مواضع).

وكان الشيخ أبو الحسن يتخذ للزراعة الوسائل التي تتيح له الاكتفاء الذاتي فيربي الثيران للحرث والدرس مثلًا، وقد حكى بنفسه هذه القصة عن ثور له وقع في البئر، فيقول: (جعل لي في ليلة دعاء فقلت: اللهم اجعل قضاءك، ومحبتك، ولقاءك، وذاتك، وذات رسولك، وسر ذات رسولك، أحب إليَّ من  نفسي، وأهلي، وولدي، ومالي، والناس أجمعين، فكنت أقولها بوجد، فأجد لها حلاوة، فكثر ذلك عليَّ فقلت: شيء ينزل، وقضاء يحدث، فبينما أنا قاعد، قيل لي: إن ثورًا كان لك فوقع في البئر، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل لي: لهذا كانت المقدمة).

أمر قبول الهدية

ويقول الشيخ أحمد بن عطاء الله فيما رواه عن شيخه أبي العباس المرسي: (دخلت يومًا على الشيخ أبي الحسن 0 فقال لي: إن أردت أن تكون من أصحابي، فلا تسأل أحدًا شيئًا، وإن أتاك شيء من غير مسألة فلا تقبله، فقلت في نفسي: كان النبي J يقبل الهدية، فقال الشيخ: النبي J، قال الله في حقه: )قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ( (الأنبياء: 45) متى أوحي إليك؟ إن كنت مقتديًا به في الأخذ، فكن مقتديًا به كيف يأخذ، كان J لا يأخذ شيئًا إلا ليثيب من يعطيه ويعوضه عليه، فإن تطهرت نفسك وتقدست هكذا فاقبل وإلا فلا).

اختيار العبودية

قال الشيخ أبو الحسن: هممت مرة أن أختار القلة من الدنيا على الكثرة، ثم أمسكت وخشيت سوء الأدب، فلجأت إلى ربي، ورأيت في النوم: كأن سليمان عليه السلام جالس وحوله العسكر ورفع لي عن قدوره وجفانه فرأيت أمرًا كما وصفه الله تعالى بقوله: )وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ( (سبأ: 13)، فنوديت: لا تختر، وإن اخترت فاختر العبودية لله اقتداء برسول الله J حيث قال: (عبدًا رسولًا)، وإن كان ولا بد فاختر أن لا تختار، وفر من ذلك المختار إلى اختيار الله. فانتبهت من نومي، فرأيت بعدها قائلًا يقول لي: إن الله اختار لك أن تقول:

(اللهم وسَّع عليَّ رزقي من دنياي، ولا تحجبني بها عن أخراي، واجعل مقامي عندك دائمًا بين يديك، وناظرًا منك إليك، وأرني وجهك، ووارني عن الرؤية، وعن كل شيء دونك، وارفع البين فيما بيني وبينك، يا من هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم).

 قضاء مصالح الناس

أيضًا كان الشاذلي يسعى لدى ولاة الأمر لقضاء مصالح الناس، كما حدث حين مر بمصر قاصدًا الحج، وبلغه شكوى قبائل الأعراب في شمال مصر من الوالي فشكاه للسلطان بالقاهرة، وتعرض بسبب ذلك لمضايقات كثيرة.

وذكر الشيخ أحمد بن عطاء الله في كتابه (لطائف المنن) أن طالبًا استشفع بأبي الحسن إلى القاضي تاج الدين أن يزاد في راتبه، فذهب الشيخ إليه، فأكبر القاضي مجيئه، وقال له: يا سيدي فيم جئت؟ فقال: من أجل فلان الطالب أن تزيده في مرتبه عشرة دراهم، فقال القاضي: يا سيدي، هذا له في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الفلاني كذا، وفي الموضع الفلاني كذا وكذا، فقال له الشيخ: يا تاج الدين، لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها، فإن الله تعالى لم يقنع للمؤمن بالجنة جزاء؛ حتى زاده النظر إلى وجهه الكريم.

ومن كثرة تردد الشيخ أبي الحسن في الشفاعات لدى ولاة الأمور والولاة في المظلومين والضعفاء لدرجة أن القاضي ابن دقيق العيد قال: جهل ولاة الأمور بقدر الشيخ أبي الحسن 0 لكثرة تردده في الشفاعات.

وقال ابن عطاء الله في ذلك: إن هذا الأمر لا يقوى عليه إلا عبد متخلق بأخلاق الله، بذل نفسه وأذلها في مرضاة الله، وعلم وسيع رحمة الله، فعامل عباد الله ممتثلًا لقول رسول الله J: (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

وكثرة شفاعة الصالحين في الضعفاء والمظلومين في كل عصر دلالة على كثرة المظالم التي تعرض لها المصريون في كل عصر من حكامهم وولاتهم!.

والشاذلي نفسه كان يدعو الله U وهو يمشي في حاجة أحد من المظلومين قائلًا: اللهم اجعل مشيي إليه تواضعًا لوجهك، وابتغاء لفضلك، ونصرة لك ولرسولك، وزيني بزينة الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون، وخصني بالمحبة والإيثار، ورفع الحجاب من الصدور في الليل والنهار، وقني شح نفسي، واجعلني من المفلحين، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم).

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …