تعود المسلمون في كل بلاد الأرض أن يحتفلوا بليلة النصف من شعبان المكرم، فيهرعون إلى بيوت الله تعالى؛ حتى تكتظ بهم المساجد، وقد تركوا خارجها مميزاتهم، وخلفوا الفوارق التي تباعد بين الإنسان والإنسان، واستوى الجميع في مرتبة العبودية أمام الواحد الديان، فلا تراهم إلا على وجهة واحدة، ودعاء وتضرع إلى الله عز وجل..
داعي الطريقة العزمية الأول
فضيلة الشيخ إبراهيم أفندي الخطيب
إن ما يبدو على وجوه المسلمين في تلك الليلة المباركة من الصفاء الروحي يشعر بحلاوة الإيمان الذي طفح من قلوبهم، فانساب على ألسنتهم ابتهالًا إلى الله، وعلى جوارحهم طاعة وعبادة الله، بل لا يسع المتأمل في تلك الحالة النفسية التي عمت جميع المجتمعات الإسلامية في ظرف واحد إلا أن يعتقد بأن هذه الروح ليست من صنع الزمان أو المكان، بل هي بتأثير قوة عليا.
وما الزمان والمكان إلا ظرفان ليس لهما تأثير إلا بقدر ما يحملانه من رموز تتصل بسعادة المجموع أو إشارات تعبر عن الخير العام أو السؤدد والسلطان، وإلا فنصف شعبان لا يختلف عن مثله في المحرم أو في شوال من حيث الظرف الزماني، ولكن الفوارق بين الشهور والأيام إنما هي بقدر ما تحمله للناس من أحداث جسام، وعِبر تظل ماثلة مدى الأعوام.
وكما أن الله تعالى فضل بعض الناس على بعض، ففضل الأنبياء والمرسلين على أممهم، والأولياء والعلماء والعاملين على أقوامهم، والمؤمنين على غيرهم.
وفضل بعض الأمكنة على بعض، حيث فضل المسجد الحرام والمسجد الأقصى والحرم النبوي على ما عداها من المساجد والمعابد، كذلك فضل الله بعض الليالي على بعض، وكانت ليلة النصف من شعبان من الليالي التي فضلها الله على غيرها من سائر الأيام والليالي الأخرى.
انشقاق القمر
وما ذلك إلا لما قدره الله تعالى في تلك الليلة من الأقدار والأحداث الجسام، التي كانت أقوى دعامة في بناء عظمة الإسلام، فإن المشركين والكفار بعد أن أفحمهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات البرهانية من المعجزات والحجج البيانية من القرآن الكريم، ولم يكن لهم ثمة هداية من الله، وكبر عليهم أن يستمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته – أرادوا أن يتحدوه متعنتين فطلبوا منه ما ظنوا أنهم به معجزوه فقالوا: “يا محمد” لن نؤمن لك؛ حتى ينشق لك هذا القمر نصفين، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – رغم إنسانيته التي يتمثل فيها بالتواضع والانكسار – تأبى الطبيعة في الأرض وفي السماء؛ إلا أن تكون طوع مشيئته، ورهن إشارته.
لا لأنه رب فعَّال، بل لأنه العبد المطاع الذي سخر الله له جميع الكائنات، والمخلوق الذي من أجله أوجد الله كل المخلوقات، ومتى كانت الكائنات من أجله J، فهي تحت تصرفه تنفعل بإشارته، وتخضع لإرادته.
وهكذا كان شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع القمر، فما أن أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بإصبعه؛ حتى انفلق القمر نصفين، صار نصفه في شرق الجبل، ونصفه الآخر في غربه.
فما أن رأى القوم هذا المنظر العجيب؛ حتى أعترتهم الدهشة وانتابتهم الحيرة.
وفي هذا الوقت الدقيق لو أن لهم سابقة حسنى عند الله؛ لخرجوا ساجدين ولأسرعوا مؤمنين.
وأنَّى لهم أن يهتدوا بمثل تلك الآيات، وقد قدر الله عليهم الشقوة، ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36)، فما زادتهم تلك الآية إلا كفرًا وطغيانًا، فقالوا: لقد شيبتنا بسحرك يا محمد، ورجعوا عن الرشد خاسرين؛ واستمرت الحيرة من هذا المشهد الرباني تحز في نفوسهم، وتستعر بلهيبها في قلوبهم، فقالوا فيما بينهم: إذا كان محمد استطاع أن يؤثر فينا بسحره، فإنه لا يستطيع أن يسحر أهل الآفاق البعيدة عنا، فلنسألهم هل رأوا انشقاق القمر كما رأيناه نحن؟.
وما كان جواب أهل هذه البلاء النائية إلا أنهم رأوا أن القمر انفلق نصفيه في نفس الزمان والمكان، ومع هذا فقد أصروا على الزور والبهتان بنسبة السحر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا يقول الله تعالى: ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ) (القمر: 1-3).
ولقد أدى عناد الكفار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ظهور تلك المعجزة الفذة بانشقاق القمر نصفين، الأمر الذي يعتبر من أعظم الأحداث في الإسلام، والذي تميز به الرسول J على جميع الأنبياء والرسل.
نعم، لقد كان لكل نبي ورسول من المعجزات الكونية، التي لم تكن في مستوى معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عظمة وسموًّا، فموسى عليه السلام انفلق له البحر؛ فصار طريقًا يابسًا، وشتان بين من ينفلق له البحر في الأرض ومن ينشق له القمر في السماء، فلقد توصلت الإنسانية من عهد بعيد إلى شق البحار وإنشاء طرق يابسة منها، وهو ما وصلت إليه معجزة موسى عليه السلام، أما انشقاق القمر فلن تصل الإنسانية إليه؛ مهما بلغت من التفوق العلمي والتعمق الفكري.
ولكم تحطمت أفكار، وانهارت عقول كبار المخترعين الذين كانوا يحومون حول الوصول إلى القمر بما وصلوا إليه من أحدث الاختراعات الجوية، التي ظنوا أنهم يستطيعون بها أن يحكموا على الأفلاك والكواكب، فما لبثوا يشمرون عن ساعد الجد، ويقدحون زناد الفكر؛ حتى أعيتهم قدرة الحق في مخلوقاته، فرجع البصر ينقلب خاسئًا وحسيرًا، وارتد العقل حائرًا وحقيرًا، وبهذه المعجزة برز رسول الله J على موسى في معجزاته، وفي هذا المعنى يقول حجة الإسلام والمسلمين السيد أبو العزائم قدس الله سره:
شَتَّانَ مَا بَيْنَ مَطْلُوبٍ وَمَــــــــنْ طَلَبَا
كَالشَّمْسِ وَالْمَاءِ تُبْدَىٰ صُـــورَةً عَجَبَا
هَٰذَا الْكَلِيــــــــــمُ نَجِـــــــــيُّ اللَّهِ آيَتُهُ
تِلْكَ الْعَصَا أَغْرَقَتْ فِرْعَوْنَ مَا نَصَبَا
والفرد خَيــــــــــــــــْرَ عِبَادِ اللَّهِ آيَتُهُ
مِنْهَــا انْشِقَاقٌ وَمِنْهَا الْقَلْبُ قَـدْ رَغِبَا
وإن في انشقاق القمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمزًا يشير إلى أن كل قلب مضيء بنور الإيمان إنما ينفلق بعامل المحبة، وقوة البرهان.
نسخ القرآن من أم الكتاب
ولقد كان من مميزات هذه الليلة أن أمر الله السفرة الكرام البررة من الملائكة أن ينسخوا القرآن الكريم من أم الكتاب، فابتدأوا في نسخه ليلة النصف من شعبان، وانتهوا من نسخة في الرابع والعشرين من رمضان، ثم أمرهم أن ينزلوه إلى سماء الدنيا في ليلة السابع والعشرين من رمضان.
تحويل القبلة
ولقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتجه في الصلاة إلى بيت المقدس، ولكن قلبه كان يخفق نحو الكعبة، وكان يتمنى أن يحوِّل الله قبلته إليها، واليهود إذ ذالك شامخون بأنوفهم؛ لأن رسول الله يتبع قبلتهم؛ حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يرفع رأسه نحو السماء عندما يتجه لبيت المقدس؛ حتى صرفه الله عنه بقوله: (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144)، فاستقرت بذلك روحه صلى الله عليه وآله وسلم حيث حقق الله مراده وطلبته بأن تكون وجهته ووجهة أمته إلى بيت الخليل عليه السلام، وكان ذلك إيذانًا بنهضة جديدة ينبعث منها نور الحق على الدنيا بأجمعها، وإيذانًا بفتح مكة، وتطهيرها من رجس الأوثان، وظلمة الشرك؛ حتى تشرق منها شمس الإيمان والحرية، فتملأ الدنيا هدى وعلمًا ومعرفة، وتسعد الإنسانية بالعدالة والمساواة.
فضل ليلة نصف شعبان
ولقد ورد من الأحاديث الدالة على فضل ليلة نصف شعبان ما لا يتسع لذكرها المقام، ونكتفي منها بهذا الحديث الشريف، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تبارك ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فاغفر له، ألا من مستزرق فارزقه، ألا من مبتلِ فأعافيه، ألا كذا، ألا كذا؛ حتى مطلع الفجر).
أعاد الله مثل هذا العام على المجتمع الإسلامي وهو رافل في حلل المجد والفخار، بعد أن يطرد بجهاده كابوس الاستعمار، والله المستعان وهو ولي التوفيق.[1]
========================================
([1]) نُشر في العدد 48 من السنة 19 بمجلة (المدينة المنورة)، يوم الجمعة 22 شعبان 1366هـ – 11 يوليه 1947م