أخبار عاجلة

مقام الشوق .. تجليات لصوفية أرضية (34)

يا إلهي، كيف يرضى البشر، الذين جعلهم الله خلفاءه في الأرض، أن يتردوا إلى ما هو دون حيوانات ذات أنياب طويلة، وقواطع حادة، وضروس عريضة، تجوب الغابة جائعة، فإن لاحت لها فرائسها..

د. عمار علي حسن

بقية: مقام الصفح

يغمض شيخي عينيه ويقول:

ـ الغابة تمرح فيها الضواري.

ويمد يديه الطيبتين فنرى الغزلان تأتي تحتها طالبة الحماية والرعاية، والفكاك المسنونة تقف على بعد ناظرة إليه صامتة، وهي تتلمظ في غيظ وخجل، وبطونها تهتز. يرفع ذراعيه نحوها، فكأنها أكلت كل ما في الغابة من لحوم تروق لها، ثم تنصرف.

لا غابة، ولا افتراس، إنما دنيا الناس. هكذا يقول لنا، ويشرح وهو ينظر إلى الأفق البعيد:

ـ في الشارع هناك الأكثر ضراوة مما هو بين الأغضان الداغلة والأحراش والرمل المفتوح على التيه والخوف.

ـ ما هو يا شيخي؟

ـ أفعال الذين يعتقدون أن ما هم فيه هو نهاية المطاف، أو الذين ينسون أنفسهم رغم علمهم بأن ما بين إيديهم عابر.

ـ وهل تفوق أفعال الناس ما تنهشه الضواري؟

ـ أكثر وأكثر، وإن كنا نلتمس عذرًا لمن تقوده الغريزة، فليس بوسعنا أن نعذر من لديه عقل.

يا إلهي، كيف يرضى البشر، الذين جعلهم الله خلفاءه في الأرض، أن يتردوا إلى ما هو دون حيوانات ذات أنياب طويلة، وقواطع حادة، وضروس عريضة، تجوب الغابة جائعة، فإن لاحت لها فرائسها، انقضت عليها بلا رحمة. هكذا أناجيه، وتأتيني الإجابة ليلًا في رؤية حافلة بالدهشة، يتهادى لي فيها أناس تنقبض صدورهم؛ حتى تصير خيوطًا من حجر، يلين في مطر خفيف؛ حتى يطل برعم صغير من بين المسام التي كانت صلدة.

حين أقص على شيخي ما رأيت يقول لي وهو يهز رأسه في يقين:

ـ تقسو قلوب العصاة والمتعصبين فتصير صخرًا، ويلين أي صخر يعترض طريق أهل الطاعة، الذي يعرفون كيف يصفحون عن الناس.

مقام التفاؤل

من أين لك بهذه القوة، وذلك الصبر العميق؟ جَسور أنت في تفاؤلك، تمضي محمولًا على أجنحته المفرودة من المدى إلى المدى، ومن الوريد إلى الوريد؛ لأن أحلامك تسري في دمك، الذي يدفعه قلبك الغض إلى عقلك الذي أجهدته أيام عصيبة لا تريد أن ترحل، ولولا الأمل الذي يحلق أمامك في الشوارع التي تنهبها ليلًا، لانتهى كل شيء فيك إلى سكون، فاتحًا ذراعيه للنهاية التي تبتلع كل أحد.

لم أرك يومًا تقول شيئًا عن السماء البعيدة، ولا تثرثر حول أولئك الذين ينحنون ركوعًا، ويخرون سجودًا، لكنني أرى الله في عينيك، وفي كل شيء فيك ومعك وبك، وقت أن تطرق صامتًا حين يسألك أحد عما سيأتي، فليس بوسع هذا أو ذاك أن يتفاءل إلا إذا كان يعرف قدر الله، أو طاله وعى بتاريخ البشر جيدًا، ولأنني أعلم أنك لم تقرأ سوى سطور قلائل في كتب التاريخ، فأنا أؤمن أنك موصول بمن وراء كل سر دفين، فهو جلَّ في علاه الذي يجعلك هكذا، تبتسم في أيام الشدة، وتلهو بانتظار المستحيل، ولا تقدر الدنيا التي تتخبط حولك على دفعك إلى رفع الراية البيضاء.

لا أكون معك في خلائك، وأنت تمضي وحيدًا في الشوارع، أو تجلس على المقهى تحتسي الشاي الذي تعشقه، وتحل في رشفاته المتلاحقة مشاكل العالم البغيض، أو تحملق في سقف حجرتك قبل أن تخلد إلى النوم ناسيًا ما عليك حيال أهلك الأقربين لحساب سكان مكان واسع مساحته مليون كيلومتر مربع، لكنه يضيق حين تستحضره في لحظات الصفاء ليس عن ضعة، إنما عن طاعة لك كي يكون في مستوى ناظريك، ماثلًا لك لتحرسه، وتهش عنه البعوض والذباب والكلاب المسعورة والذئاب والأفاعي وكل الضواري.

طالما راهنك المتعجلون، وقالوا لك في ثقة:

ـ لن يتغير شيء.

ترفع وجهك إليهم غارقًا في صمتك، ثم تنظر إلى الأرض، وتتركهم يرون ما ترى. كل شيء يؤول إلى هذا التراب. تلك حكمتك الأخيرة. لن يبقى شيء، ولا أحد، مع أنك تؤمن أن هذه الحياة فيها آحاد كثر وأشياء كثيرة، وبوسعهم أن يفعلوا المعجزات قبل أن يغمضوا عيونهم ولا يرون إلا التراب.

أقول لك ونحن ندب في الشوارع في المساءات المتلاحقة، بعد أن أجهدني الكلام، وأجهدك صمتك:

ـ الليل يشتد والنهار بعيد.

لا تتوقف خطاك لتفكر فيما سمعت، فالإجابة لديك حاضرة على طرف ضميرك الذي لا ينام، فأراك تقول:

ـ نهار هناك قادم.

ارفع وجهي في المساحات المحصورة بين البنايات الشاهقة، وتلك الأوسع التي تحط فوق النهر وما علي جانبيه من رصيفين خجولين تحت ستائر الظلام الكثيف، لأرى النهار يبزع، لكن الليل يجثم، ويقبض على الفضاء المخنوق، وتغور النجوم في قلب الرماد البعيد، فأقول لك:

ـ لا يزال الفجر بعيدًا.

تدع الهواء الخفيف يداعب شعرك الهائج الذي لا يموج، وتقول بصوت خفيض، لا أكاد أسمعه:

ـ أراه يقترب.

أرفع وجهي فإذا ليس أمامي سوى ليل في ليل، لكنني أرى معك النهار. وأقول في ثقة، كما تقول:

ـ إنه آت.

لتعلم يا صديقي إن قولي ليس عن ثقة فيما أسمعه منك، ولا عن قراءة في تواريخ لم تحصها عددًا، إنما لأني أرى الله يسكن الوقت، بل هو الوقت، فالزمن لا غالب له، لا شيء يعبره، ولا أحد يضارعه، وما من إنسان شاده إلا ارتد خاسرًا ومسروقًا، فالأعمار أكثر وأهم ما يسرق منا، إنها السرقة الوحيدة التي ليس بوسع إي إنسان دب على الأرض أن يستردها، ولا يمكنه أن يبلغ عنها من يسجلها جريمة، لأن الكل في هذا سيان، من يحكي، ومن يسمع.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (19)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …