أخبار عاجلة

مقام الشوق .. تجليات لصوفية أرضية (40)

فوق أطلال هذا الحلم الذي أنت مجذوب إليه تمضي متوكأ على سنينك إلى نهايتك. لا يوجد شيء أصدق في هذه الحياة من الموت. حقيقة لا مراء فيها. ليس بوسع أحد منا أن يعود بعد أن مددوه في كفنه…

د. عمار علي حسن

مقام البشارة

فوق أطلال هذا الحلم الذي أنت مجذوب إليه تمضي متوكأ على سنينك إلى نهايتك. لا يوجد شيء أصدق في هذه الحياة من الموت. حقيقة لا مراء فيها. ليس بوسع أحد منا أن يعود بعد أن مددوه في كفنه.

ما الموت سوى ما يراد لنا لا ما نريد. هو غياب في حضور، وحضور في غياب. واقف على باب أيامنا يدعونا دومًا إلى الذهاب إليه، يستسرعنا ونتباطأ، نستمهله فلا يجيب. نرجوه أن يقف عند حلوقنا الظمأى إلى الخلاص، أن يدرك رغبتنا العارمة في الحياة، لكنه لا يطاوعنا أبدًا. هو منذور إلى ما خُلق له، ونحن منذورون له أيضًا، مهما طال الأجل والأمل. إنه هو نحن، الذي نكذبه في صدق، ونصدقه ونكذب على أنفسنا.

ذاهب أنا إلى حيث التقاء الصخر بالماء، هناك المكان المعجزة، فلا النهر يصعد إلى الجبل، ولا الجبل يجور على النهر، بل يمده بزاد جديد حين يهطل المطر فوق الرُبا، ويسيل إلى المجرى العريض. وهناك أيضًا بئر غير معطلة تنزف ريقها ليغرق فيه ظمأي.

هناك حيث لا شاطئ، ولا حافة، ولا سقف. لا أرض ولا سماء، لا أحد يسأل عن الساعة، وعن البقعة التي يكون بوسعه أن يملأ بها قدميه. هناك يطير الناس محلقين في البعيد القريب، وتصير أجنة الطيور باتساع المجرة. من يصل سيجدني واقفًا مشدوهًا، أنظر هازئًا إلى أدنى الأرض، رافعًا كفيَّ إلى من تجاوز وجوده الأزمنة والأمكنة لأطلب الرحمة والفضل.

معلق في مشجب الريح كي تأتي فتمنع سقوطي. عبث كل شيء إلا وجه الذي خلق. أدور في فراغ لا ينتهي إلا هناك حيث هو، ينظر إلي مبتسمًا. أيها الإله الرحيم خذني إليك ليذهب عني هذا التأرجح بين الغياب والحضور، واجعل خلفي التراب مُخضرًا، فأراه هكذا وأنا أبتعد عنه لأقترب منك، ويموت الأفق تحت إبطي، وتغور الشوارع كأنها لم تكن في يوم الأيام موطني.

الموت يسرى كهواء نتنفسه دون أن نراه، لكننا نحسه، ليس شهيقًا هو، ولا نسائم طرية تهب علينا فتؤرجحنا فوق نعمة سابغة، إنما شيء كوخزة لطيفة، تنبهنا في اللحظة الأخيرة إلى أن هناك حياة أخرى نحن موعودن بها، كي نعرف أن ما كنا فيه هنا عبث وهراء، عابرًا كان، وومضة خاطفة في عمر الزمن الأزلي الأبدي، لا يبقى فيه سوى الوجوه التي رأيناها، والكلام الذي نطقت به القلوب العامرة بحب الله والناس، وتلك المناظر الساحرة التي صنعها التقاء يدي البشر والطبيعة.

يا للأسف حتى هذا الذي يبقى من هنا يتبخر هناك، ليس بأمر من أحد على الأرض، إنما من الواحد الأحد، وتدبيره الذي لا يصمد أمامه شيء. من قال إن ما شكلته أناملنا بوسعه أن يحافظ على وجوده إن واجه الوجود نفسه، فليس كل موجود هو كذلك إن كان يفنى، حتى لو رأيناه وسمعناه وتذوقناه وشممناه ولمسناه، فكل الذي يرى ويسمع ويتذوق ويشم ويلمس هو نفسه إلى فناء.

كل محسوس هو ابن ما نحن فيه وبه وحوله، أما ما لا يُحس، فهو الساكن في اللحظة بين الحضور والغياب، التي يداهمنا فيها الموت. بين غمضة عين ونصف انتباه، يمر كل شيء، من المهد إلى اللحد، نرى كل الذي مضى في دفقة واحدة، كأن الله أراد أن يرينا في اللحظات الأخيرة أن العمر لم يكن سوى لحظة، وكنا غافلين.

لكن من قال إن مفارقة الغفلة في لحظة أمر مستحب؟ فمن ذا الذي لا يريد أن يمد الأفق لروحه كي تحيا دقائق إضافية، حتى لو كانت حياته تعيسة. قد لا يكون حبًا في الدنيا هو، لكنه خوف مما لا نعلم عنه شيئًا. نعم نعرف ما جاء في نصوص دينية وما تخيله الناس من أول الخليقة، وما قاله الذين قاربوا النهاية وعادوا، لكن، هل عاد أحد من النهاية التامة، فاختبرنا معه كل ما سمعناه وقرأناه؟

لا، لم يرجع إلينا سوى السؤال؟ سؤال في أخيه، على أخيه، مع أخيه، وعنده، وله، ومنه، والإجابات حائرة، تهتز كأن عاصفة هوجاء تضربها من كل اتجاه، فتضيع بين الغبار والدوامات الهائمة العبثية، التي تدور فتبلع في بطنها الهادر كل شيء، الكلمات والصور والرموز الغائمة، التي وضعت على جبهات الأيام التي كرت في لمح البصر.

أيها الساكن في دمي، وفي روحي، ترسم خطواتي وتعدها، إني أعرفك جيدًا، فكل ما رسمته للذين سبقونا كان فخاخًا، وقعوا فيها وهم يمضون فوق جسور الأماني الكاذبة. أحاذر منك، أرفع قدميَّ على مهل ظنًا مني أن بوسعي تفادي الحفر التي بذرتها في كل الطرق، لكني لا محالة واقع في واحدة. أين هي؟ متى تأتي؟ لا أعرف. ولست وحدي الذي يجهل. فمن ذا الذي بوسعه منذ أول الخلق حتى نهايته أن يعرف هذه مهما أوتي من علم؟

أيها الذي يأتي لا محالة، لن أطلب منك الخروج من خلايا جسدي، فأنت فيها منذ أول خلقها، بل أنت منها. إنه شرط الوجود، فمن يوجد يفنى، ومن يرفض الفناء لا يوجد، إلا الواجد الذي يوجد ويجيد ويجدد ولا يتجدد، لأنه ثابت من الأول إلى الآخر، من الأزل إلى الأبد، من أول الوعي والاندهاش إلى نهايته، وفي أول خلية حتى فنائها، لكنه لا يفنى، لأن كل موجود في قبضته، وما يمكن أن يوجد كذلك محيطًا لكل شيء من الابتداء إلى الانتهاء، هو وحده الذي بوسعه أن يكتب سفر الموت بلا أي نقصان، وما دونه يتخبطون في النقص وذل السؤال الذي لا إجابة له سوى هناك حيث لا يكون بوسعهم أن يعودوا بما عرفوا إلى الحائرين الذين يدبون على التراب تائهين.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (25)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …