مقام التحمل
على شفا الانفجار تقف، لكنها لا تفعل أبدًا. تغمض عينيها وتبلع ريقها، وتشحن صوتها بحروف جديدة ترددها كثيرًا على مسامعه، مثلما يكرر هو ما يريد دون توقف. كيف يمكن أن تكون لسيدة كل هذه القدرة على كظم الغيظ، ومغالبة الأيام العصيبة؟ تلملم أطراف نفسها، وتقف على قدميها،.
د. عمار علي حسن
مقام التحمل
على شفا الانفجار تقف، لكنها لا تفعل أبدًا. تغمض عينيها وتبلع ريقها، وتشحن صوتها بحروف جديدة ترددها كثيرًا على مسامعه، مثلما يكرر هو ما يريد دون توقف. كيف يمكن أن تكون لسيدة كل هذه القدرة على كظم الغيظ، ومغالبة الأيام العصيبة؟ تلملم أطراف نفسها، وتقف على قدميها، وتقول له في هدوء:
ـ بعد غد سيفرجون عنا.
لم يكن سجنًا هو إنما تحسب أو حذر في وجه وباء كاسح. هو لا يعرف هذا، وهي تعبت في أن تفهمه بلا جدوى. يمضي خلفها في كل مكان بشقتهم التي تطل على الماضي دومًا، ويسألها:
ـ ماذا أفعل؟
تبتلع ريقها الذي جف من كثرة الجدال معه في سبيل إفهامه، وتقول له:
ـ لا شيء. ابق في البيت أسبوعين، هكذا قرروا في وجه في الوباء، ولا خيار لنا سوى التحمل.
تراه يبتسم، ويسأل:
ـ وباء؟!!
وتلوح في عينيه سخرية تفضح كل شيء. فمنذ متى كان العالم يمضي بلا أوبئة، وأشدها اعتلال النفوس؟ إن هذا هو الوباء المقيم، الذي لا ينتهي. هو محصن منه؛ لأن طاقة المحبة والسلام التي تملأ نفسه، تكفي كل الذين يدبون على الأرض، ولا يلتفتون إليه إلا بقدر ما يثير استغرابهم أو شفقتهم، مع أنهم هم الذين يستحقون الشفقة، بعد أن طالت أنيابهم، وصارت أظافرهم مخالب حادة، وأنصتوا كل الوقت صاغرين لصوت بطونهم التي لا تشبع.
هي نفسها عانت طويلًا من هذه الضواري، وحين تضعه أمام كل الذين توحشوا، تضمه إلى صدرها، لتأخذ دفقة عفية من الخير والبركة والبراءة، تعينها على مواصلة الحياة دون حقد على أحد، ومع كل ضمة صارت تراه في أحزانها سببًا للبهجة والامتنان والسكينة.
ربع قرن على الأقل في الصبر والبكاء الصامت ومحاولة التلهي والنظر إلى نصف الكوب المملوء، الذي ما إن تنظر إليه حتى يفرغ، لكن روحها تملأه بعد أن ينهك جسدها تمامًا، وهي تلحق به في كل مكان يحل فيه، ويلاحقها هو أينما ذهبت.
يا أيتها السيدة الصابرة، التي عرفت منذ أول سنين فرحها أنها مقبلة على حزن مقيم، فراحت تجمع نثار الحكايات من زمنها الذي ولى، وتصنع منها ستارة ملونة تخفي بها أحزانها التي لا تكف عن الفوران والدوران صباحًا ومساءً، وقبل أن تنام تضعها في وجه نور الصبح الجليّ، كي يُبقى لها ظلامًا رائقًا، يضرب جفنيها على مهل، ويجعل أحلامها تترى بلا انقطاع.
لا تكف عن الخوف مما هو آتي، لكنها تطلق نفسها الطيبة في وجه كل ما يقلقها، مؤمنة بأن الآتي يجب أن يكون أجمل دومًا. وعليها إن أرادت الجسارة أن تعيد على نفسها كل شيء من أوله، أيام الحمل به، ولحظة ولادته، والجزع الذي أصابها حين أخبرها الطبيب بأنه سيكون غير ما توقعت، وعليها أن ترضى وتصبر وتقاوم.
وهي على باب الحزن حيث الغربة والوحدة والخوف والقلق والحيرة من المجهول الآتي، حتى أتاها بعض اليقين، بعد أن صارت موقنة بأنه قدرها، وليس لها منه فكاك. كانت كلما نظرت إليه رأت في وجهه نور عجيب، وكلما نظر إليه ذابت فيه محبة.
يقول لها الناس: إن هذا الصبي الذي أنجبته فيه أشياء لله، ولا يجب التوقف عند معرفة الأسباب التي جعلته هكذا، ما دام قد شب على هذه الغربة، والعالم الضيق الجميل الذي يملأ رأسه، والصدق الذي يلازمه دون افتراق.
تقول لها سيدة وهي تنظر إلى جسمه القوي:
ـ طفل دائم لا ينقطع رزق من يعطف عليه.
تبتسم وتقول لها:
ـ يعشق ركوب الطائرات.
تهز رأسها وتقول لها في ثقة:
ـ يريد أن يكون أقرب إلى السماء.
لا يدري هو، حين يطلب بلا انقطاع السفر عبر الطائرة، أنه ينهك هذه التي تنصت إليه وتحمله في صميم قلبها وعينيها ويرهقها حد الانهيار، حين يلح في طلبه، ولا يسمع ردها:
ـ هذا مستحيل الآن.
لا يعرف هو معنى المستحيل هذا، فكيف يكون في العالم شيء يستعصي على التحقيق غير إحياء الموتى وعودتهم؟ في نفسه ما يهمس له بأن المستحيلات يصنعها الناس، كي يقيموا حواجز تحمي السُرَّاق والمغرورين، ولولا هذا لتيسرت السبل، فكيف إذن يمنعونه من أن يحقق أحلامه الصغيرة جدًّا، والتي لن تضر أحدًا.
في نفس كل ولي براءة تصل حد البلاهة لا يدركها الذين يؤمنون بأن الدنيا تؤخذ غلابًا. فما في نفوس الأولياء من طيبة وحسن نوايا وطوايا يجعلهم أحيانًا لا يمعنون النظر في كل ما يسمعونه ويرونه، بل يتعاملون معه في تسام غير عابئين بنصيبهم منه إلا ما يمكث في الأرض، ويسري إلى السماء، ولذا يحسبهم كثيرون في غفلة. قد يكونوا فعلًا غافلين، لكنها الغفلة التي تنقذ أصحابها من التربص والتنمر والتبجح والتعقب.
تدرك هي كل هذا فتنسى مآسيها معه، ويلين كل قاس، ويهون كل صعب، وتستعيد صغيرها الطيب، الذي عليها أن تبتسم حين تسمع صوت طفولته وهو في ريعان الشباب، والحيرة تأكل ملامحه، لكن قلبه في اطمئنان تام.
بالأمس سمعت عن الأم التي أصابها الشلل الرعاش فبدأت بعد ثلاثين عامًا تبحث عمن يعينها على تربية شابين يعانيان من تأخر عقلي شديد وثالث كفيف. كانت حكاية عجيبة، جعل التي سمعت، تسأل نفسها:
ـ من أنا في مقام التحمل؟
كانت قد ارتقت سلمه الطويل على مهل، راضية بخطواتها الوئيدة، التي كلما قطعتها في هدوء راحت عن جسدها بعض عافيته، لكن روحها تقوى، لتجرف في طريقها كل المتاعب، وأغلبها ليست من الصبي الطفل، والطفل الصبي، إنما من تصاريف الحياة كلها، الحافلة بغير الطيبين، والتي هي في حاجة دائمة إلى أمثاله كي يلطفوا من غلوائها، ويبقوا فيها براءة مدهشة، يموت بعضها مع مطلع شمس كل يوم جديد.