أخبار عاجلة

مذكرة المرشدين والمسترشدين (2)

المؤمن هو من جَمَّلَهُ الله تعالى بخصال المؤمنين، وتوفرت فيه شروط الإيمان. وإنما يَعْرِفُ الإيمانَ مَنْ عَلِمَ شرائطَه، ويَعْرفُ المؤمنين من عرف خصالهم. إذا تقرر ذلك، ظهر لنا أن الإيمان مقول على نوعين: ظاهر وباطن….

الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم

بقية: مقامات الدين الإسلامي

ثانيًا: الإيمان

المؤمن:

المؤمن هو من جَمَّلَهُ الله تعالى بخصال المؤمنين، وتوفرت فيه شروط الإيمان. وإنما يَعْرِفُ الإيمانَ مَنْ عَلِمَ شرائطَه، ويَعْرفُ المؤمنين من عرف خصالهم. إذا تقرر ذلك، ظهر لنا أن الإيمان مقول على نوعين: ظاهر وباطن.

1- الإيمان الظاهر:

فالإيمان الظاهر هو الإقرار باللسان بخمسة أشياء:

أ- هو الإقرار بأن للعالم صانعًا: واحدًا، حيًّا، قادرًا، حكيمًا، أَحَدًا، صمدًا، عالمًا، مريدًا، مدبِّرًا، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، غنيًّا بذاته عن المكان والزمان، منزهًا عن الكم([1]) والكيف([2]) والنظير والند والضد. عَلِيًّا عن الإدراك؛ إذ لا يعلم حقيقته إلا هو وحده سبحانه. وهو الله خالق الخلق كلهم ومدبرهم لا أحد شريك له في ذلك.

ب- هو الإقرار بأن له ملائكة صفوة الله من خلقه، أقامهم لعبادته وطاعته، وجعلهم حفظة لخلقه ووكل كل طائفة بالقيام بشأن مما قدره ودبره وأراده من شئونه التي يبديها في خلقه، ولا يبتديها في عالم سمواته وأرضه ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6).

ج- الإقرار بأنه قد اصطفى صفوة من بني آدم، هم رسله وأمناؤه، الذين يبلِّغون الناس كلامه سبحانه المنزل عليهم، ويدعونهم إلى توحيده سبحانه والعمل بما أمر.

د- الإقرار بأن هذه الأشياء التي جاءت بها الأنبياء عليهم السلام من الوصايا والأنباء باللغات المختلفة منزلة من الله I وحيًا أوحى الله به إليهم بطرق الوحي المعلومة شرعًا وثبتت عقلًا.

هـ- الإقرار بأن القيامة لا محالة كائنة، وهي النشأة الآخرة، وأن الخلق كلهم يبعثون ويحشرون ويحاسبون، ويثابون بما عملوا من خير ومعروف، ويجازون بما عملوا من شر ومنكر، أو يغفر الله وهو الغفور الرحيم، وذلك قول الله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾ (البقرة: 285) وقال: ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (الطلاق: 2).

و- ويكمل الإيمان الظاهر بإقرار سادس؛ هو: أن يقر المؤمن بأن سيدنا ومولانا محمدًا J خاتم الرسل وخيرهم، وأن كتابه مهيمن على جميع الكتب، وأن الدلائل والبراهين التي أقامها الله تعالى في القرآن تكفي لمن سلم قلبه من العناد، وطهرت نفسه من الخبث أن يتحقق أنه رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن من لم يؤمن به J كافر، وأن القضاء والقدر خيره وشره من الله تقديرًا وإرادة وإيجادًا، وأن التكلم فيه بدون علم وتسليم ربما أدى إلى سلب الإيمان.

ولا يكمل الإيمان الظاهر إلا بالعمل على قدر الاستطاعة بما أمر الله به، والنهي مطلقًا عما نهى الله عنه – إلا لضرورة شرعية – ومجموع هذا هو الإيمان الظاهر الذي دعت الأنبياء D الأمم الْمُنْكِرَةَ لهذه الأشياء إلى الإقرار بها، وهو يؤخذ تلقينًا كما يتلقن الصغار من الكبار، والجُهَّالُ من العلماء.

2- الإيمان الباطن:

والإيمان الباطن هو: عقد القلب على اليقين الحق بما أقر به لسانه، فهذا هو حقيقة الإيمان بحيث يكون عقد القلب كعقد قلب من شهد بعيني رأسه عقدًا لا يعتريه شك ولا ريب.

المؤمن ظاهرًا:

هو المقر بهذه الأشياء بلسانه، المتميز من اليهود ومن النصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا، وبهذا الإقرار يجري عليه أحكام المسلمين من الصلاة والزكاة والحج والصوم وما شاكلها من مفروضات شريعة الإسلام وسنة المؤمنين.

المؤمن ظاهرًا وباطنًا:

أما الذين مدحهم الله في كتبه ووعدهم بالجنة، فهم الذين يتيقنون بضمائر قلوبهم حقائق هذه الأشياء المقر بها. وأما الطريق إليه سبحانه فهو بالتفكير والاعتبار والقيام بشرائطها وواجب حقها كما قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).

ثالثًا: الإحسان

المحسن:

لما كان المحسن هو مَنْ أحْسَنَ العمل والحال والقول، وكانت الأعمال إما قلبية أو بدنية، ولا يتحقق الإحسان إلا إذا تحقق الإنسان بإحسان عمل القلوب. ولما كانت أعمال القلوب لا تكون إلا عن العلم والمعرفة؛ لأنها عبارة عن اليقين والخشية، والرهبة والخوف، والحب والْوَلَهِ والتألهُ، والرضا والصبر، والتوكل والتفويض، والإنابة والتسليم والإسلام لله، والإخلاص والصدق، والتوجه والمراقبة، والمشاهدة والحضور، والقرب والوصول، والتحقق بالْمَعِيَّةِ والْعِنْدِيَّة، وغير ذلك من المقامات التي يرتقي إليها الإنسان في سيره وسلوكه، والدرجات التي يرفعه الله إليها في وصوله وقربه كما قال الله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ (المجادلة: 11) وكما قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (آل عمران: 163)، وقال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ (يونس: 26) وقال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (البقرة: 195) وكما قال J: )الإحْسَانُ أن تَعْبُدَ الله كَأنكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ(([iii]).

إذا تقرر هذا يظهر لنا أن محبة الله تعالى ثابتة للمحسن، وأن إحسان الله تعالى والمزيد عليه من الله تعالى ثابت للمحسن، وأن المحسن يعبد الله حاضر القلب بيقين حق؛ حتى كأنه يرى الله تعالى، وهو مقام كُمَّل المحسنين. وأقل منه أن يعبد الله متيقنًا أن الله I يراه فيحسن عمله لتحققه أن الحق ناظر إليه، وهو بداية المحسنين، وتلك المشاهد العلية والمقامات الموهوبة بفضل الله تعالى، قد سبق الإلماع إلى ما يمكن كشفه بالعبارة في كتاب: (شراب الأرواح). ولكني في هذا أذكر ما ينبغي أن يكون عليه السالك من مشاهد الإحسان.

ما ينبغي أن يكون عليه السالك من مشاهد الإحسان

1- أن يعمل الأعمال الموافقة للأحكام الشرعية:

يجب عليه أن يعمل جميع الأعمال الواجبة عليه، متحريًا موافقتها للأحكام الشرعية، بحيث لا يعمل عملًا إلا بعد علم شروطه وفرائضه وسننه ومبطلاته، سواء كان هذا العمل عبادات أو معاملات، وهذا هو الإحسان في العمل، فإذا قصر بطل عمله أو نقص، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ (الكهف: 30).

2- أن يحسن نيته في العمل:

يتحرى أن يحسن نيته في العمل، وأن يلاحظ النية من بداية العمل إلى نهايته؛ حتى لا تحصل له غفلة.

3- أن يجتهد في إخلاص العمل لوجه الله:

يجتهد في إخلاص العمل لوجه الله؛ حتى لا يشوبه رياء مفسد، أو غرض آخر مبطل للعمل بأن يعمل كمن يعبد الله على حرف.

4- أن يستحضر مقام من يعمل العمل له سبحانه:

أن يستحضر مقام من يعمل العمل له سبحانه عظمة وغنى وعزة، ويستحضر نفسه عالمًا بقدرها من الذلة والمهانة والاضطرار لتحصل المواجهة والأنس.

5- أن يعتقد أن العمل بتوفيق الله ومعونته:

يستحضر أن العمل بتوفيق الله ومعونته وبأمر الله ولله، فيشتغل بالموفق الآمر المعين على العمل حال العمل وبعده، لينسى عمله بذكر ربه.

6- أن يقصد بالعمل القيام بحقوق العبودة:

يقصد بالعمل القيام بحقوق العبودة لسيده الآمر له، رَغْبَةً في نوال رضوانه وفضله.

وكل هذه خصال المحسن، ومراتب رقيه، ومبادئ عروجه. وهناك أسرار عزت عن أن تفي بها العبارة ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ (الإسراء: 85).

رابعًا: الإيقان

الموقن:

هو من كوشف من أسرار الغيوب والآيات، وغريب تصريف القدرة، وبديع أسرار الحكمة، بما جعل قلبه مطمئنًا لا تحوم حواليه الشكوك، ولا تهجس فيه الريب؛ لأنه تجمل بسراج يزهر وهو النور الذي يجعله الله تعالى في القلب ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور: 40).

فاليقين مزيد من الله تعالى للعبد، به تسكن النفس إلى مبدعها، ويفر الموقن بكمال يقينه إلى الولي الوكيل الحسيب، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام: 75) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقال سيدنا إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ (الصافات: 99).

من أمثلة أعمال اليقين:

انظر بعين بصيرتك في هذا المقام العلي، كيف بلغ بأهله من الأنبياء والصديقين والشهداء مبلغًا من المقامات سجد العقل على أعتابها حسيرًا.

هذا الخليل عليه الصلاة والسلام ألْقِىَ في النار ثابت القلب مطمئنه، ساكن النفس إلى ربه، وهذا مقام في اليقين. وأرقى من هذا المقام أن جبريل عليه السلام أدركه في هذا الوقت الحرج وعرض عليه أن يفعل ما يأمره به بقوله: ألك حاجة؟ فكان اليقين الحق ماحيًا لما سوى التوحيد من قلب الخليل. والإخلاص الكامل، سالبًا لكل حظ وهوى في غير ذات الله. والصدق الحقيقي، مبعدًا كل ثقة وأمل وتوكل واعتماد على غير ذات الله. ومُثُلُ اليقين في سِيَرِ الرسل عليهم الصلاة والسلام لا تحصى.

انظر في الصِّدِّيقِيَّة تَرَ مبدأها حادثة هابيل وقابيل، كيف بلغ اليقين بهابيل مبلغًا جعله يرضى بقتل نفسه من غير أن يحرك يده؛ لأنه مشاهد حق يقين عظمة عظيم وجلال جليل ومقام عليّ كبير فقال: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة: 28).

وانظر إلى يوسف الصديق كيف قال: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: 33) وكيف قال لإخوته: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف: 92).

ثم تأمل في حادثة سحرة فرعون كيف امتلأت قلوبهم يقينًا بانبلاج الآية؛ حتى قالوا لفرعون: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا # إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه: 72-73).

ثم اعْتَبِرْ بغرائب المواهب التي منَّ الله تعالى بها على أصحاب رسول الله J، لعلك تعجب إذا قيل لك: إن سيدنا عليَّ بن أبي طالب نام على فراش رسول الله J ليلة الهجرة ليُقتل، وإن سيدنا أبا بكر الصديق وضع عقبه([iv]) على الجحر الذي رأى فيه الحية ورسول الله نائم على فخذه في الغار. وأمثال تلك الحوادث كثير لا يحصى من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، ليس هذا المختصر محلًا لبسطها.

فكأن اليقين شهود أسرار الآيات، وسر القدرة الساري في الكائنات، ونور الحكمة المنبلج للبصائر في كل الموجودات. وليس اليقين مما يدّعيه المدعي؛ لأن دلائله حسية تدهش العقول وتحير الألباب؛ حتى أن العاقل لا يعرف لها سببًا عند شهود رضا العبد وصبره، وحسن توكله وتفويضه وتحمله عظائم الأمور. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فالمريد الذي تفرحه الدنيا إن أقبلت، وتحزنه إن أدبرت، ويخشى أن يعمل الخير خوفًا على زوال الدنيا، ربما فعل المعصية لجلبها، ويجهل ويقنط عند الفتن، ليس من أهل اليقين ولو ادّعى أنه منهم.

وفيما تقدم من أمثلة أعمال أهل اليقين بيان لمشاهد ومشارب أهل اليقين، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإحسان واليقين، وأن يهب لنا مواهب إحسانه، وموارد أهل محبته، وأن يمن علينا سبحانه وتعالى بالعفو والعافية والمغفرة والوسعة والخير إنه مجيب الدعاء.

الزاهد والعابد والعارف:

الزاهد: هو من أعرض عن متاع الدنيا وطيباتها لمقصد.

والعابد: هو المواظب على العبادات بجميع أنواعها لمقصد.

والعارف: هو المقبل بفكره وقواه النفسية على قدس الجبروت، مستديمًا لشروق نور الحق لسره بعد تركه للملك، وإشرافه على الملكوت، ومواجهة نفسه للعزة.

العابد إذا كان غير عارف: تكون عبادته معاملة خاصة، يعملها في الدنيا لأجرة يأخذها في الآخرة هي الثواب والنعيم.

الزاهد إذا كان غير عارف: فزهده معاملة خاصة؛ لأنه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة.

العارف زهده تنزيه سرِّه عما يشغله عن الحق، وتحقير لكل شيء غير الحق. العبادة عند العارف رياضة خاصة لتزكية النفس وتطهيرها وصقل القوى المتوهمة والمتخيلة لتصفو النفس من الرعونات، وتطهر من لقسها، وتميل عن جانب الغرور إلى جانب الحق، وبذلك تصير مسالمة للنفس الملكية والقدسية، فلا تحصل منازعة للسر عند مواجهته للنور الساطع عليه من جناب الحق سبحانه.

فمقصد الزاهد غير العارف متاع الآخرة.. ومقصد العابد غير العارف نعيم الآخرة مقابل عبادته. ولا مقصد للعارف إلا الحق الأول لا لشيء غيره، ولا يُؤْثِر شيئًا في عرفانه، وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة، ولأنها نسبة شريفة إليه، لا لرغبة أو رهبة، وإن كانتا فيكون المرغوب فيه والمرهوب عنه هو الداعي وفيه المطلوب، ويكون الحق ليس هو الغاية بل الواسطة إلى شيء غيره، وهذا الغير يكون هو الغاية والمقصد، ويكون الحق عند هذا العامل وسيلة ﴿ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ﴾ (الصافات: 164).

أسأل الله تعالى أن يزكي أنفسنا، وأن يجعلنا من المقربين المحبوبين، وأن يمن علينا بجماله وإحسانه، وفضله الواسع وتوفيقه، ورضوانه ومغفرته، إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تعريف الورع:

الورع هو ترك الشبهات، قال الله تعالى: ﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (المدثر: 4) وقال J: (من حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يُعْنِيه)([v])، وقال عليه الصلاة والسلام: (دَعْ مَا يَريبُك إلَى مَا لا يَريبُك)([vi]) وقال J: (لَا يَكُونُ العَبْدُ مِنَ المْتَّقِينَ؛ حتى يَدَعَ مَا لَا بأْسَ بِه حَذرًا مِمَّا بِه بَأْسٌ )([vii])، وقال J لأبي هريرة: (كُنْ وَرِعًا؛ تَكُنْ أعْبَدَ النَّاس)([viii]) وقال أبو بكر الصديق 0: )كُنَّا نَدعُ سَبْعِينَ بَابًا مِنَ الْحَلالِ مَخَافَة أنْ نَقَعَ فِي بَابٍ مِنَ الْحَرامِ(، وقال الضَّحَّاك([ix]): (أدْرَكْتُهمْ وما يتعلمون إلا الورعَ، وأنتم تتعلمون الكلام)، وقال يحيى بن معاذ([x]): (الورع: الوقوف عَلَى حَدِّ العلم مِنْ غَيْرِ تَأويلٍ وَلا قِياس)، وهو أيضًا راجع إلى معاني الأحاديث المتقدمة، وهو آخر زهد العامة وأول زهد الخاصة.

درجات الورع:

وهو ثلاث درجات:

1- تجنب القبائح لصون النفس وتوفير الحسنات، فإن من خلط العمل الصالح بشيء من السيئات فما وفَّر حسناته ولا صان إيمانه.

2- حفظ حدود الشريعة بترك ما لا بأس به إبقاء على الصيانة والتقوى؛ كما أشار إليها الحديث.

3- التورع عن كل داعية تدعو إلى سيئات الوقت، وعن كل عارض يعرض حال جمعك على الله تعالى.

أنواع الورع:

والورع على أربعة أضرب:

1- الورع الذي يشترط في الشهادة والرواية: وهو الذي يخرج الإنسان – بتركه – عن أهلية الشهادة والرواية والقضاء والولاية، ويحصل بالتجرد عن الحرام الظاهر.

2- ورع الصالحين: وهو يحصل بالتوقي عن الشبهات التي تتقابل فيها الاحتمالات، وقد حرَّض النبي Jعلى ترك الشبهات فقال: (مَنْ تَركَ الشُّبهاتِ؛ فَقَدْ اسْتَبرأ لِعِرْضِه وَدِينِهِ)([xi]).

3- ورع المتقين: وهو ترك الحلال المحض تحفظًا من الوقوع في المشتبهات. وقال J: (لَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ المُتَّقِينَ؛ حتَّى يَدَعَ مَا لا بأْسَ بِهِ مَخَافَةً مِمَّا بِهِ بَأْسٌ)([xii]).

4- ورع الصديقين: وهو الإعراض عما سوى الله تعالى، خوفًا من صرف ساعة من العمر فيما لا يفيد زيادة قرب عند الله تعالى.

ودخل الحسن البصري([xiii]) مكة فرأى غلامًا من أولاد سيدنا عليّ بن أبي طالب قد أسند ظهره إلى الكعبة يعظ الناس، فوقف عليه الحسن فقال: مَا مِلاكُ([xiv]) الدين؟ فقال: الورع. فقال: ما آفة الدين؟ فقال: الطمع. فتعجب منه.

ومن رغب في الجنة تورع عن الشبهات، ومن رغب في معية النبيين والصديقين والشهداء تورع عن بعض المباحات، ومن رغب في الله سبحانه فرَّ إليه عما سواه. أسأله I أن يمن علىَّ وعلى أهلي وإخواني بالحب الخالص لذاته، والرضا عن جنابه العليِّ، والإخلاص والصدق، وأن يتفضل علينا جميعًا بالحب منه سبحانه والرضا والقبول، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

===================================

([1]) الكم: هو العرض الذي يقتضي الانقسام لذاته، وهو إما متصل، وإما منفصل.

 ([2])الكيف: هو الهيئة المستقرة في الشيء، لا تقتضي قسمة ولا نسبة لذاتها.

([iii]) هذا الحديث أخرجه مسلم عن ابن عمر، وابن حنبل والبخاري ومسلم وابن ماجة عن أبي هريرة، وهو حديث صحيح، الجامع الصغير ج1 ص 414 رقم 3042.

 ([iv])العقب : هو مؤخر القدم.

([v]) هذا الحديث رواه أحمد، وأبو يعلي، والترمذي، وابن ماجة عن أبي هريرة، ورواه أحمد عن الحسين ابن علي، والعسكري عن علي، والطبراني عن زيد بن ثابت، وقد أوضحه السخاوي في تخريج الأربعين.

 ([vi])هذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي وأحمد وأبو يعلي، والدارمي والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي، قال الترمذي: هو حسن صحيح وصححه ابن حبان.

([vii]) هذا الحديث أخرجه الترمذي وحسنه، وابن ماجة والحاكم وصححه من حديث عطية.

 ([viii])هذا جزء حديث، أورده السيوطي عن البيهقي في الشعب عن أبي هريرة.

 ([ix])هو الضحاك بن مزاحم البلخي المفسر، توفى سنة 105 هـ.

 ([x])هو أبو زكريا، يحيى بن معاذ بن جعفر الواعظ الرازي، كان أوحد وقته في زمانه، له لسان في الرجاء وكلام في المعرفة، أقام ببلخ مدة ثم عاد إلى نيسابور، ومات بها سنة 258 هـ.

([xi]) هذا جزء حديث عن النعمان بن بشير 0، والحديث بتمامه كما يلي: » الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها أكثر الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب « انظر: الكنز الثمين ص 261 رقم 1653.

([xii]) سبق تخريج هذا الحديث .

 ([xiii])هو الإمام المشهور أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار التابعي البصري، ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وتوفي سنة 110 هـ.

 ([xiv])ملاك الأمر – بفتح الميم وكسرها – ما به قوامه وملكه.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

من دروس غزوة بدر الكبرى.. كيف نُعِدُّ رجال الفتح؟

اعتنى أئمة أهل البيت بالحديث عن نجباء مصر وأهمية بيعتهم لإمام دولة أهل البيت، وأن …