بيَّنَّا اللقاء الماضي أن الكافر والملحد الذي يكذب فعله قوله يزعم أنه جاء إلى الحياة الدنيا مجبرًا، والعدم خير منها، مع أن الله U قد خير عبده المبتلى بين الدنيا والآخرة، ولكن هذا الضال المضل يزعم أنه ليس ثمة آخرة، وأن الدنيا عذاب وشقاء، وهو لم يستشر قبل قدومه إليها، وهو لم يرض بها..
الدكتور فاورق الدسوقي
مقدمة
بيَّنَّا اللقاء الماضي أن الكافر والملحد الذي يكذب فعله قوله يزعم أنه جاء إلى الحياة الدنيا مجبرًا، والعدم خير منها، مع أن الله U قد خير عبده المبتلى بين الدنيا والآخرة، ولكن هذا الضال المضل يزعم أنه ليس ثمة آخرة، وأن الدنيا عذاب وشقاء، وهو لم يستشر قبل قدومه إليها، وهو لم يرض بها .. وفي هذا المقال نواصل الحديث، فنقول:
بقية: هدف الإنسان في الفلسفة الغربية الحديثة
فما لم يرتبط هذا الهدف بالوجود الأخروي ويؤدي إليه فلن يكون هدفًا صحيحًا ولا غاية حقة أو كافية؛ لأن تفرق بين الإنسان والحيوان؛ لأن أحد الفروق الجوهرية بينهما هو خلود الإنسان وبقاؤه بعد الموت، ومن ثم لا يمكن أن يكون هدف الإنسان من الحياة قاصرًا في أثره ومدلوله على الحياة الدنيا فقط، وإلا أصبح هدفًا في نطاق طبيعة الإنسان البشرية المماثلة للحيوانية.
وهكذا تحيد عقيدة المشركين بهم عن الوصول إلى الغاية الحقيقية للوجود الإنساني.
وبمعنى آخر نقول: إنه في ظل حضارة مادية ملحدة كافرة كالحضارة الغربية المعاصرة رفضت الإيمان بالغيب وباليوم الآخر وقامت على الشك في وجود الله U، نقول: مثل هذه الحضارة تقدم لنا الإجابة على السؤال: ما هو الهدف من الوجود الإنساني، وما هي الغاية العليا من الفعل الإنساني العام المتمثل في إقامة الحضارة بعامة وفي التقدم العلمي بخاصة؟!.
تجيب هذه الحضارة بأنه التطور.
فإذا سألنا: وما هو الهدف من التطور؟.
قالوا: المزيد من التطور، ولا شيء غير ذلك.
وهذا هو بعينه التيه والضياع الذي انتهت إليه الحضارة الغربية؛ لأننا عندما نثبت التطور لا بد أن نثبت معه إلى ماذا يتطور الإنسان، وبدون إثبات الهدف الذي يجب أن نصل إليه بالتطور تكون مسيرة الحضارة الغربية بلا وجهة محددة أو هدف معين، ضياعًا في ضياع، هذا بالنسبة للإنسان كنوع.
أما بالنسبة للفرد فلا يمكن أن يكون التطور غاية له في حياته القصيرة؛ لأن التطور لا يتم إلا من خلال العمل التاريخي، ولا شك أنه من حق الجيل الواحد والفرد الواحد أن يسأل عن الهدف من حياته والغاية من وجوده القصير. وهنا تعجز الحضارة الغربية بمفكريها وفلاسفتها وعلمائها عن تقديم الإجابة الصحيحة على هذا السؤال، بل إنهم يعجزون عن إثبات وجود معنى للحياة أو هدف لها كما مر بنا.
الحكمة من خلق الإنسان والهدف من وجوده في الإسلام
وهذا يدعونا إلى عرض الإجابة الإسلامية النابعة من التوحيد الإسلامي.
إن الحضارة الإسلامية لها هدف محدد، وغاية معلومة، ولها وجهة معينة تتجه إليها، ولذلك فهي ليست حضارة ضالة تائهة ضائعة كالحضارة الغربية المعاصرة.
لقد ربط القرآن الكريم ربطًا وثيقًا بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبالجنة والنار من ناحية، وبين الهدف من وجود الإنسان وتحديد المعنى الحقيقي للحياة فقال تعالى: Pوَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَO (الدخان: 38، 39)، وقال تعالى: Pأَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِO (المؤمنون: 115، 116).
فأثبت I في هاتين الآيتين الكريمتين أن الكافر الذي ينكر الرجوع إلى الله في الآخرة يصف بهذا الإنكار الإله بالعبث واللعب، أي أنه يجعل غاية الحياة عبثًا والهدف من الإنسان مجرد اللهو، أو كأنه ينفي أن يكون للإنسان هدف وغاية، ومن ثم يكون فعل الله وخلقه للعالم لهوًا وعبثًا ولعبًا، تنزه الله U عن ذلك وعلا علوًّا كبيرًا.
أما المؤمن فهو يعلم أن الله خلق الخلق بعامة وخلقه بخاصة لحكمة، وأن له هدفًا في هذه الحياة، قال تعالى: Pإِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِO (آل عمران: (190، 191).
فأثبت أن الله خلق السماوات والأرض بالحق ولحكمة، وأن للإنسان هدفًا ينتهي إليه أو يجب أن ينتهي إليه.
والآن إلى السؤالين المطروحين من قبل.
ما الحكمة من خلق الإنسان؟.
وما الهدف من وجوده؟([i]).
قد يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة أن السؤالين هما سؤال واحد متكرر، ولكن هذا ليس صحيحًا؛ لأن خلق الإنسان من فعل الله U، والخلق منسوب لله وحده، أما الغاية من وجود الإنسان فهي منوطة بالفاعلية الإنسانية وعلى الإنسان أن يسعى لبلوغها، ومن ثم يمكن وصف هذه الغاية بأنها التكليف العام للإنسانية.
وبتعبير آخر يمكن القول بأنه لا يجوز أن ننسب الغاية من حياة الإنسان كهدف لفعل الله U؛ لأن الله هو الغني عن العالمين، عمن سواه وعما سواه، وإن كان تحقيق الإنسان لهذه الغاية أو لخلافها يتم – ككل شيء في الكون – بقضاء الله وقدره.
وعلى ذلك فالحكمة من خلق الإنسان غير الهدف من وجوده.
أما عن الحكمة فقد قال تعالى: Pوَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاO (هود: 7)، فالحكمة من خلق المخلوقات بعامة هي ابتلاء الإنسان، والحكمة أيضًا من خلق الإنسان هي ابتلاء الإنسان، قال تعالى: Pإِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًاO (الإنسان: 2).
========================
([i]) راجع هذا الموضوع تفصيلًا في كتاب القضاء والقدر في الإسلام – حقيقة الابتلاء – طبع المكتب الإسلامي وهو للمؤلف.