بيَّنَّا اللقاء الماضي أن المجتمع إذا أراد أن يحقق عبوديته لله، فيجب على الأفراد أن يحققوا عبوديتهم الفردية لله أولًا، ثم عليهم أن يخضعوا في علاقاتهم ومعاملاتهم وأنظمة ومناهج حياتهم العامة، لإرادة الله التشريعية.. وفي هذا المقال نواصل الحديث..
أ.د. فاروق الدسوقي
بقية: الدين والعلم مقوما الخلافة وليسا متعارضين في الإسلام
قلنا في العدد الماضي أن تحقيق السيادة للإنسان في الأرض يقوم على ركيزتين، شرحنا الأولى منهما، وفي هذا العدد نشرح الركيزة الثانية:
أما الركيزة الثانية للسيادة: فهي كامنة في طبيعة الأشياء والأحياء الأرضية، وهي تتمثل في تسخير الله U لها. قال تعالى: )وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ( (الأعراف: 10). وقال تعالى: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا( (الإسراء: 70).
وتعدد آيات سورة النحل النعم الإلهية على الإنسان من تسخير الأنعام والجمال والخيل والبغال والحمير، والمطر والنبات، والليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والبحار يأكل من أحيائها لحمًا طريًّا ويستخرج منه الحلي ويركب فوقه الفلك، ثم يعقب Y على هذا كله بقوله: )وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( (النحل: 18).
وتتمثل استطاعة الإنسان فيما زوده الله U به من حواس وأعضاء وقوى نفسية وبدنية، فإذا عمل بها الإنسان سخر لنفسه الأشياء والأحياء.
فالعمل هو سبيل تحقيق سيادة الإنسان على الأشياء في الأرض، وهو سبيل تحقيق عبودية الإنسان لله في الأرض.
أي أننا بذلك نكون قد عدنا إلى الأصل الأول الذي تحدثنا عنه في بدء المقالات، والذي تقوم عليه الحياة البشرية والحضارة الإنسانية وهو الفاعلية الإنسانية.
فالفاعلية هي أساس الخلافة وبها يحققها الإنسان.
بيد أن العمل لتحقيق العبودية لله U يحتاج إلى معرفة ترشد وتوجه وتهدي الإرادة الإنسانية، وقلنا: إنها الدين.
والعمل لتحقيق السيادة في الأرض يحتاج إلى معرفة ترشد وتوجه وتدل الاستطاعة الإنسانية، وهي هنا العلم التجريبي.
ومن ثم فالإنسان لا يحقق هدفه أو غايته العليا في حياته الدنيا؛ إلا بمنهجين مختلفين للمعرفة تحتاج إليهما فاعليته، هما: الدين، والعلم التجريبي، أو العلوم الدينية والعلوم التجريبية.
ولذلك يعتبر كل من المعرفة الدينية والمعرفة التجريبية مقومًا رئيسيًّا من مقومات الخلافة. وقد ثبت لنا ذلك على مستوى التحليل النفسي للفعل البشري، أي على مستوى الفاعلية الفردية، حين تبين لنا أن الإرادة في حاجة إلى الدين ليستقيم اختيارها، وأن الاستطاعة في حاجة إلى العلم التجريبي لإدراك الأسباب الحقيقية للفعل وتحقيقه وإنجازه بالأخذ بها، فالدين يعلم الإنسان ماذا يفعل؟، والعلم التجريبي يعلمه كيف يفعل؟.
وكذلك الفاعلية الإنسانية الاجتماعية أو الجماعية تحتاج أيضًا إلى الدين أو العلوم الدينية لتحقيق العبودية، كما تحتاج أيضًا إلى العلوم التجريبية لتحقيق السيادة.
وهكذا تتوافق الوسيلة والغاية عند الفرد في الإسلام مع الوسيلة والغاية بالنسبة للمجتمع بل بالنسبة للإنسانية كلها، من حيث إن الغاية على جميع مستويات الحياة الإنسانية واحدة وهي الخلافة.
وبدون المعرفة لا يمكن للإنسان أن يصل إلى هدفه.
إلا أن المعرفة نوعان: المعرفة الدينية والمعرفة التجريبية، ولا بد من أن تكون كل منهما في موضعها التي جعلت من أجله، فلا يجوز أن تكون العلوم الدينية لقيادة الاستطاعة، كما لا يجوز أن تكون العلوم التجريبية لقيادة الإرادة وإرشادها في اختيارها.
كذلك لا يصح أن تجعل العلوم الدينية لسيادة الأرض، كما لا يجوز ولا ينفع أن نجعل العلوم التجريبية لتحقيق العبودية لله U. فكلاهما معرفة، وكلاهما ضروري لحياة الإنسان وتحقيق هدفه وتوجيه حضارته ومسيرته التاريخية.
إلى هنا نكون قد انتهينا من عرض غاية الإنسان في الحياة بين التوحيد الإسلامي والعقائد الجاهلية، وإلى العدد القادم إن شاء الله تعالى لنبدأ سلسلة جديدة عن العلاقة بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية.