أخبار عاجلة

عبقرية الإمام عليٍّ (25)

يرى بعض المؤرخين، أن قريشًا كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة لعلة أخرى تقترن بهذه العصبية التي أوقعت التنافس بين بيوتها وبين بني هاشم، فقد بطش الإمام بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم عتبة بن ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه في يوم بدر….

المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد

بقية: سياسته

يرى بعض المؤرخين، أن قريشًا كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة لعلة أخرى تقترن بهذه العصبية التي أوقعت التنافس بين بيوتها وبين بني هاشم، فقد بطش الإمام بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم عتبة بن ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه في يوم بدر … عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه الترات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقدًا أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار، وكانت حاله بعد تلك المدة كما قال ابن أبي الحديد: “كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه، من إظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب، حتى الأخلاف من قريش والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه وفتكاته في أسلافهم وآبائهم، فعلوا به ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله”.

وقد علم الإمام هذا من قريش، عندما يئس من مودتها وابتلي بالصريح والدخيل من كيدها، فقال: “ما لي ولقريش؟ … أما والله لقد قتلتهم كافرين ولأقتلنهم مفتونين … والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته … فقل لقريش، فلتضج ضجيجها”.

ولو أن قريشًا وادعته في سرها وجهرها، ووقفت بينه وبين منافسيه على الخلافة لا تصده عنها ولا تدفعهم إليها، لقد كانت تلك عقبة أي عقبة …

فأما وهي تحاربه بعصبيتها وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي J، ولم يكن حزب قط أقوى يومئذ من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها …

ولقد سبق الإمام إلى الخلافة ثلاثة من شيوخ الصحابة هم: أبو بكر وعمر وعثمان …

فإذا نظرنا إلى عائق العصبية الذي قدمناه، فلا نرى شيئًا أقرب إلى طبائع الأمور من سبق هؤلاء الثلاثة بأعيانهم إلى ولاية الخلافة بعد النبي J؛ لأنهم أقرب الناس أن يختارهم المسلمون بعد خروج العصبية الهاشمية من مجال الترجيح والترشيح …

فليس أقرب إلى طبائع الأمور في بلاد عربية إسلامية من اتجاه الأنظار إلى مشيخة الإسلام في السن والوجاهة والسابقة الدينية، لاختيار الخليفة من بينها على السنَّة التي لم تتغير قط في تواريخ العرب الأقدمين، ولم يغيرها الإسلام بحكم العادة ولا بحكم الدين.

ولم يكن الإمام عند وفاة النبي من مشيخة الصحابة، التي تئول إليها الرئاسة بداهة بين ذوي الأسنان، ممن مارسوا الشورى والزعامة في حياته J؛ لأنه كان يومئذ فتًى يجاوز الثلاثين بقليل، وكان أبو بكر وعمر وعثمان قد لبثوا في جوار النبي بضع عشرة سنة قبل ظهور عليٍّ في الحياة العامة، وهم يشيرون على النبي، ويخدمون الدين ويجمعون الأنصار ويدان لهم بالتوقير والولاء …

والعائق الذي قام بين عليٍّ وبين الخلافة هو في طريق هؤلاء الثلاثة السابقين تمهيد وتقريب … ونعني به عائق العصبية الهاشمية؛ لأن قريشا لا تنفس على بني تيم، ولا بني عدي، ولا بني أمية، في رئاسة عثمان خاصة … كما تنفس على بني هاشم، إذ تجتمع لهم النبوة والخلافة …

والإمام نفسه لم يفته أن يدرك هذا بثاقب نظره، حين قال وقد تجاوزته الخلافة للمرة الثالثة بعد موت الفاروق: (إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: “إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدًا … وما كانت في غيرها من قريش تداولتموها بينكم”). وإذا اجتمع هذا العائق إلى عائق السن والتوقير للمشيخة المقدمة، فهما مبعدان للإمام عن الخلافة بمقدار ما يقربان سواه…

نعم إن فارق السن قد تقارب بعد موت الفاروق، وبلغ الإمام الخامسة والأربعين، وسبقت له في المشورة سوابق مأثورات … فأصبح الفارق بينه وبين من يكبرونه مزية تعين على العمل والجهد، وتنفي مظنة الضعف والتواكل، ولكن الذي كسبه بهذه المزية خسره بازدياد المطامع الدنيوية ويأس الرؤساء من الوفر والنعمة على يديه، واعتقاد الطامعين أنهم أقرب إلى بعض الأمل في لين عثمان، وتقدم سنِّه منهم إلى أمل من الآمال في شدة الإمام وعسر حسابه …

وبقيت الجفوة بينه وبين قريش على حالها، لم يكفكف منها تقادم العهد كما قال ابن أبي الحديد …

وعلى هذه الجفوة في القبيلة كلها، دخلت في الأمر دخلة البواعث الشخصية التي لا يسلم منها عمل من أعمال بني الإنسان في زمن من الأزمان … فقد اجتمع رهط الشورى الذين ندبهم الفاروق لاختيار الخليفة من بعده، فتقدم بينهم عبد الرحمن بن عوف، فخلع نفسه من الأمر كله ليتاح له أن يستشير الناس باسمهم، ويعلن البيعة على عهدتهم، وقيل: إنه أنس مع الزبير وسعد بن أبي وقاص ميلًا موقوتًا إلى عليٍّ وانحرافًا موقوتًا عن عثمان، فسارع إلى المنبر وبايع عثمان وجاراه الحاضرون مخافة الفتنة والشقاق.

وكان عبد الرحمن بن عوف صهرًا لعثمان؛ لأنه زوج أخته لأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.

ويقضي الحق أن يقال في هذا المقام: إن بيعة عثمان قد تمت باتفاق بين المسلمين لم ينقضه خلاف معدود، فليست كلمة عبد الرحمن بن عوف هي التي خذلت عليًّا وقدمت عثمان عليه، إذ لو كانت هناك مغالبة شديدة بين حزبين متكافئين لما استقامت البيعة لعثمان بكلمة من عبد الرحمن بن عوف … وهو واحد من خمسة أو ستة إذا أشركنا معهم عبد الله بن عمر بن الخطاب …

ثم بويع الإمام بعد مقتل عثمان، فهل تحولت قريش عن جفوتها، أو نظرت إلى السياسة الهاشمية نظرة غير نظرتها؟ كلا … بل جاءت البيعة في المدينة، يوم خفت فيها صوت قريش، وهبطت سمعة حكامها، ويوم أصبحت البيعة ثورة على قريش، تنكر عليها الأثرة بالملك، والأثرة بالغنائم والأمصار…

ويوم انقسم المجتمع الإسلامي قسميه، اللذين التبسا وتداخلا حينًا حتى فصلتهما الحوادث فصلها الحاسم في خلافة عثمان: قسم يريد الرجعة إلى الخلافة والآداب النبوية، وقسم يريد المضي في الملك والدولة الدنيوية …

فأي القسمين، كان قسم عليٍّ كائنًا ما كان سعيه واجتهاده؟ … وأية سياسة كانت تعينه على مشكلة الخلافة منذ بدايتها بعد وفاة النبي إلى ختامها الفاجع بعد مقتل عثمان؟.

هذا ما سنجيب عنه في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (33)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …