أخبار عاجلة

عبقرية الإمام عليٍّ (3)

كان من تورع الإمام عليٍّ عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، أنه لم يبدأ أحدًا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: «لا تدعوَنَّ إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغٍ والباغي مصروع» …...

المفكر الإسلامي الكبير المرحوم عباس محمود العقاد

بقية: صفاته

كان من تورع الإمام عليٍّ عن البغي، مع قوته البالغة وشجاعته النادرة، أنه لم يبدأ أحدًا قط بقتال وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: «لا تدعوَنَّ إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي إليها باغٍ والباغي مصروع» …

وعلم أن جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون …!»

وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صِفين، وقبل كل وقعة صغرت أو كبرت ووضح فيها عداء العدو أو غمض: يدعوهم إلى السلم وينهى رجاله عن المبادأة بالشر، فما رفع يده بالسيف قط إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.

وكان يعظ قومًا فبهرت عظته بعض الخوارج الذين يكفرونه، فصاح معجبًا إعجاب الكاره الذي لا يملك بغضه ولا إعجابه: قاتله الله كافرًا ما أفقهه … فوثب أتباعه ليقتلوه، فنهاهم عنه، وهو يقول: إنما هو سبٌّ بسب أو عفوٌ عن ذنب.

وقد رأينا أنه كان يقول لعمرو بن وُد: إني لا أكره أن أهريق دمك … ولكنه على هذا لم يرغب في إهراق دمه إلا بعد يأس من إسلامه ومن تركه حرب المسلمين … فعرض عليه أن يكف عن القتال فأنف، وقال: إذن تتحدث العرب بفراري، وناشده: يا عمرو، إنك كنت تعاهد قومك ألا يدعوك رجل من قريش إلى خلتين إلا أخذت منه إحداهما، قال: أجل، قال: فإني أدعوك إلى الإسلام أو إلى النزال، قال: ولمَ يا ابن أخي؟ … فوالله ما أحب أن أقتلك … فلم يكن له بدٌّ بعد ذلك من إحدى اثنتين: أن يقتله أو يقتل على يديه.

وعلى ما كان بينه وبين معاوية وجنوده من اللدد في العداء لم يكن ينازلهم، ولا يأخذ من ثاراته وثارات أصحابه عندهم إلا بمقدار ما استحقوه في موقف الساعة: فاتفق في يوم صفين أن خرج من أصحاب معاوية رجل يسمى كريز بن الصباح الحميري، فصاح بين الصفين: من يبارز؟ … فخرج إليه رجل من أصحاب علي فقتله ووقف عليه ونادى: من يبارز؟ فخرج إليه آخر فقتله وألقاه على الأول، ثم نادى: من يبارز؟ … فخرج إليه الثالث فصنع به صنيعه بصاحبه، ثم نادى رابعة: من يبارز؟ … فأحجم الناس ورجع من كان في الصف الأول إلى الصف الذي يليه، وخاف علي أن يشيع الرعب بين صفوفه، فخرج إلى ذلك الرجل المدل بشجاعته وبأسه فصرعه، ثم نادى نداءه حتى أتم ثلاثة صنع بهم صنيعه بأصحابه، ثم قال مسمعًا الصفوف: يا أيها الناس، إن الله U يقول: )الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ(، ولو لم تبدءونا ما بدأناكم … ثم رجع إلى مكانه.

أما مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مدبرًا أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا سترًا أو يأخذوا مالًا، وصلى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على السواء، وظفر بعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهم ألد أعدائه المؤلبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيشٍ ذي عدة، فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاءً لضربته … وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفين، وهم يقولون له: ولا قطرة؛ حتى تموت عطشًا … فلما حمل عليهم وأجلاهم عنه سوَّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي، فلم يرد عليها شيئًا، ثم خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها، قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ … فانتهره وهو يقول: ويحك؟ … إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟ … وإنه لفي طريقه إذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة، فأمر بجلدهما مائة جلدة، ثم ودع السيدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالًا، وأرسل معها من يخدمها ويحف بها، قيل: إنه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلَّدهن السيوف … فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي … فلما وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهن وقلن لها: إنما نحن نسوة.

وكانت هذه المروءة سنته مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، ومن كان في حرمة عائشة — رضي الله عنها — ومن لم تكن له قط حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال …

وتعدلها في النبل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له، وأضرهم به وأشهرهم بالضغن عليه، فنهى أهله وصحبه أن يمثلوا بقاتله وأن يقتلوا أحدًا غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاء محزون يفيض كلامه بالألم والمودة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا صفوفه، وأفسدوا عليه أمره وكانوا شرًّا عليه من معاوية وجنده؛ لأنه رآهم مخلصين وإن كانوا مخطئين وعلى خطئهم مُصرِّين …

وتقترن بالشجاعة – ولا سيما شجاعة الفرسان المقاتلين بأيديهم – صفة لازمة لها متممة لعملها قلما تنفصل عنها، وكأنها والشجاعة أشبه شيء بالنضح للماء، أو بالإشعاع للنور، فلا تكون شجاعة الفروسية إلا كانت معها تلك الصفة التي نشير إليها، وهي صفة «الثقة» أو «الاعتزاز» أو الادراع بالهيبة والتهويل على الخصوم، ولا سيما في مواقف النزال.

وقد يسميها بعض الناس زهوًا وليست هي به ولا هي من معدنه وسمته، وإن شابهته في بعض الملامح والألوان.

فالزهو المذموم فضول لا لزوم له ولا خير فيه، وهو لونٌ خادع قد يوجد مع الضعف كما يوجد مع القوة، وقد يبدو على الجبان كما يبدو على الشجاع …

أما هذا الاعتزاز الذي نشير إليه، أو هذه الثقة التي تظهر لنا في صورة الاعتزاز، فهي جزء من شجاعة الفارس المقاتل لا يستغني عنه ولا يزال متصلًا بعمله في مواجهة خصومه، وهو عرض للقوة يساعد الفارس في إرهاب عدوه وإضعاف عزيمة من يتصدى لحربه … مثله هنا كمثل العروض التي تعمد إليها الجيوش لإعلان بأسها، وتخويف الأعداء من الاستخفاف بها والهجوم عليها، فهو كالشجاعة أداة ضرورية من أدوات القتال لا تنفصل عنها، وليس كل ما فيها ضربًا من الخيلاء يرضي به الشجاع غروره، ويتيه به في عير حاجةٍ إلى التيه.

ولهذا تحمس الناس للفخر العسكري من قديم الزمن وعهدوه وتحدثوا به وتناقلوه، فسمحوا للفارس – بل لعلهم أوجبوا عليه – أن يروغ من خصمه بالفخر المرعب إذ يتقدم لنزاله، وأن يلاقيه وهو ينشد الأشعار في ذكر وقعاته والتهويل بضرباته والإشادة بغزواته، وعلموا أنهم – وقد احتاجوا إلى شجاعته – محتاجون كذلك إلى فخره وحماسته، وإيقاع الرعب في جَنان قِرنه، فشاعت قصائد الفخر والحماسة كما شاعت قصائد الحب والمناجاة، وهي أحب القصائد إلى القلوب.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (15)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …