أخبار عاجلة

حين تصالح الإيمان المعتدل مع الدولة في معارك الوطن: عبدالناصر والطرق الصوفية

دأب الفكر الإسلامي المعاصر وبخاصة بعد النصف الثاني من هذا القرن وحتى يومنا هذا، على إعادة إنتاج قضاياه القديمة، وإعادة طرحها بنفس الشروط وذات المواصفات التي كانت ملازمة لها مع أوائل القرن التاسع عشر، وهي عملية تعكس في تقديرنا حالة الخلل البنائي الذي أصاب العقل المسلم، والعربي فجعله يقف عن الإبداع،..

د. رفعت سيد أحمد

* كان للطرق الصوفية فى المجتمع المصرى عبر تاريخها الطويل، والذى بدأ مع استشهاد الإمام الحسين بن علي بالعراق ورحيل بعض أهله ومحبيه إلى مصر، ونشأة المتشيعين لهم (من داخل أهل السنة في مصر) والمتباكين على استشهاد ابن بنت النبي في  ملحمة كبري أثرت ولا تزال مؤثرة؛ حتي يومنا.. لقد كان لهذه الطرق الصوفية ولا يزال تأثيراتها الكبري، السياسة المهمة في تشكيل الشخصية المصرية، وبالذات فى القرى المصرية وفى الأوساط الشعبية المصرية، وخاصة إذا علمنا أن عددها فى مصر قد بلغ نحو ثمانين طريقة صوفية، تحتوى قرابة العشرة ملايين مواطن، بالإضافة إلى أعداد المحبين المساندة لحركتها.

ولعبت الطرق الصوفية خلال المائة عام الاخيرة دورًا مزدوجًا فى قضايا الديمقراطية والاستقلال والتنمية والصراع الخارجى، إذ تميز دورها فى أغلبه بالمساندة لسياسات الحاكم والدعم المعنوي  له من ناحية، كما تميز بكونه أداة ضابطة لممارسات السلطة، وخاصة تجاه بعض الأمور الدينية كقضايا الأحوال الشخصية من ناحية أخرى. وكان للقدرات التى تتمتع بها الطرق الصوفية فى التأثير على أتباعها، وخاصة فى توجيه طاقتهم السياسية وجهة صوفية بعيدة نسبيًّا عن أساليب العنف والرفض، التى ميزت التيارات الدينية الأخرى، وبالأخص الإخوان المسلمين، ثم القاعدة وداعش لاحقًا، ولقد قوبلت هذه الدعوة بإقبال متزايد من الجماهير، ويعود ذلك إلى عوامل متعددة: اقتصادية واجتماعية، مع بعض الموروثات الثقافية القديمة منذ عهد الفراعنة، وجميعها وجدت تجاوبًا جماهيريًّا مع هذه الطرق.

* اليوم نفتح ملفًّا مجهولًا – نسبيًّا – عن تلك العلاقة المهمة التي ربطت بين النظام الناصري الثوري وبين الطرق الصوفية والذي من الممكن أن يفيدنا اليوم – مصريًّا وعربيًّا – في التعامل مع قوي الإسلام المعتدل والصوفي منه بصفة خاصة فماذا عنه؟

يحدثنا التاريخ أنه يمكن تلمس أبعاد العلاقة بين النظام السياسى الناصرى والطرق الصوفية من خلال مستويين من التحليل:

الأول: فكرى، ويحدد مدركات الطرق الصوفية تجاه القضايا السياسية الملحة فى هذه الفترة (1952-1970م)، والتى تحدد بالتالى موقفهم الفكرى أو النظرى من النظام السياسى.

الثانى: عملى، ويشير إلى المواقف العملية للطرق الصوفية خلال هذه الفترة تجاه القضايا والأزمات السياسية وقتها.

المستوى الفكري

– نستطيع تلمس أبعاد هذا المستوى من خلال تحليل رؤية الطرق الصوفية لكل من القضايا الداخلية الاجتماعية والسياسية، كالاشتراكية والديمقراطية والقضايا الخارجية السياسية كالقومية العربية والمواجهة مع الصراع الخارجى.

أما بخصوص القضايا الداخلية فقد كان للطرق الصوفية موقف مؤيد للنظام السياسى الناصرى تجاه أغلب هذه القضايا، وإن بدا فى بعض الفترات القليلة أن للطرق الصوفية موقفها المخالف لتوجهات النظام، فإن هذا لا يخفى التوجه العام الذى ميز رؤيتهم، فالاشتراكية تمثل لديهم: “نوعًا من السمو بكرامة المواطنين جميعًا، ولقد وجهت الجمهورية العربية شطرًا من عنايتها لتقريب المسافات بين غنيهم وفقيرهم؛ حتى يكون الجميع سواء فى حق الحياة وحتى تتوثق الرابطة بينهم، ومن المعلوم أن هذه نقطة أساسية فى برنامج الإسلام فقد حضَّ على البذل ووضع الثروة فى مكانها، وحذر من كنز الأموال، وسنَّ للأغنياء السبل إلى الإيثار والإعطاء، وأبعد عن الفقراء شعور وإحساس الحرمان ومرارة العوز، وجهود الخلفاء فى تعهد هذه الناحية فى الرعية  (محمد خلف الله أحمد: الخطوط الكبرى للنهضة الإسلامية، مجلة الإسلام والتصوف سبتمبر 1961م (مجلة شهرية كانت تصدر عن مشيخة الطرق الصوفية – القاهرة) ص ص 16 – 17).

والاشتراكية الصوفية ليست دعوة إلى تقنين الإلحاد أو للتحلل من بعض قيمنا الخلقية والتى نعتز بها كمسلمين وكعرب بل وكبشر ” فإن اشتراكيتنا مؤمنة لا ملحدة، فاضلة لا فاجرة، اشتراكية قوم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله ” (سيد حمزة مكرم المحامى: اشتراكيتنا مؤمنة لا ملحدة، مجلة الإسلام والتصوف، المصدر السابق ص 34).

وعبد الناصر لديهم هو: “قائد البعث العربى وموجه تاريخنا، ومحرر الشعب العربى من إسار المواريث الرجعية، ومن قيود الطبقية والاستغلالية، وهو الذى وقف ليعلن حق الإنسان فى حياة فاضلة، وفى عمل شريف وفى مجتمع تتكافأ فيه الفرص، وتتساوى فيه الأقدار، وتتعاون فيه الطاقات، مجتمع يسير على تخطيط هادف، وعلى منهج محرر يستهدف التوازن الاقتصادي، والعدل الاجتماعي، والبعث والانطلاق للقوى الشعبية العاملة (محمد علوان – مجلة الاسلام والتصوف – المصدر السابق ص54)..

أما بالنسبة للقضايا الخارجية: فقد كان للطرق الصوفية رؤيتها تجاه بعض القضايا التى عاشتها مصر إبان الفترة (1952 – 1970م)، وكانت قضية القومية العربية من أهم القضايا التى شغلت القوى الدينية والسياسية على اختلافها، وكان للطرق الصوفية رؤيتها تجاه هذه القضية، حيث يقول شيخها أنئذ محمد محمود علوان: في مقال يحمل عنوان القرآن ووجوب العناية به : مجلة الإسلام والتصوف (ديسمبر 1960م): “العروبة التى ننادى بها ليست حركة جنس أو لون إنما حركة بعث لأمة كبرى، تحتل أخطر منطقة فى الكوكب الأرضي، وتمثل أرضها قلب العالم النابض، وتمثل فوق هذا كله أنها أرض النبوات والرسالات، أرض الإشعاع الروحى الذى تهفو إليه الإنسانية، وتزود منه بيقينها وإيمانها، إنها حركة مبادئ تستند إلى مواريث خالدة، وتصور لونًا من الحضارة المؤمنة، وتقدم منهجًا لا من الإنسانية وسعادتها، وأخوة الإنسان وتعاونه مع أبناء البشرية كافة (1960م).

وكان للطرق الصوفية موقفها الفكرى أيضًا تجاه قضايا المواجهة ضد العدوان الخارجي، وتبدى هذا فى إعلانها على لسان شيخ مشايخ الطرق الصوفية إبان العدوان الثلاثى على مصر بأن : ” اليوم الأمة العربية تدوى من حولها العواصف، ويتربص بها جبابرة عتاة بغاة، فيا أيها المتصوفة فى كل مكان، إن عبادة الله لا يستقيم ميزانها إلا بالجهاد فى سبيل الله، فى سبيل خير أمتكم، ورفاهية شعبكم وحماية وطنكم ” (محمد محمود علوان : الروح الصوفى هو السلاح السرى للعالم الإسلامى، مجلة الإسلام والتصوف، (يوليو 1958م) ص 5).

المستوى العملي

فى سبتمبر 1959م وجه الشيخ/ محمد محمود علوان شيخ مشايخ الطرق الصوفية بيانًا إلى الأمة العربية قال فيه: “إن معركة القومية العربية الدائرة الرحى الآن فى العراق ليست معركة العراق وحده بل هى معركة العالم العربى كافة، وندد بالنكسة الرجعية وحمامات الدم، وأكد أنها تشكل خطرًا على الكيان العربى كله، وعلى مقدساته وعقائده وميراثه الروحى العالمى (الأهرام بتاريخ 24/9/1959م)، وفى نفس الوقت دعا المجلس الصوفى الأعلى، الطرق الصوفية إلى منع النساء من حضور حفلاتها المختلفة، وكذلك أى مظهر من مظاهر الشعوذة.

وكانت هناك نوايا إلى إعادة تجميع الطرق الصوفية التى وصلت إلى 80 طريقة تضم 3 ملايين مواطن فى عام 1963م، تحت تنظيم جديد وبأهداف جديدة تتفق وقيم المجتمع الاشتراكى، وأن يقضى هذا التنظيم – كما نوه رئيس المجلس الصوفى الأعلى – بإنشاء مراكز ثقافية توجيهية (8-9-1963م الأهرام) لتدريب رجال الطرق، وتجريد التقاليد الصوفية مما علق بها، وتنظيم لجان للخدمات الدينية والاجتماعية النافعة للشعب.

وإبان أحداث الصدام بين النظام السياسى والإخوان المسلمين عام 1965م، كانت الطرق الصوفية إلى جانب النظام، حيث أصدر الشيخ محمد محمود علوان بيانًا فى مولد الإمام الرفاعى أعلن فيه أن رسالة التصوف هى الدعوة إلى الأمن والسلام، ومحاربة أساليب العنف والإرهاب، وأن الإسلام حرم التآمر فى الخفاء، والمفاجأة بالإثم والعدوان (الأهرام بتاريخ 1/10/1965م).

وقبل الاحتفالات بأعياد الثورة كان للطرق الصوفية موقفها أيضًا، حين أصدر شيخها أمرًا ينوه فيه حول ضرورة أن يكون الاحتفال مهيبًا ويتفق وجلال المناسبة، الأهرام بتاريخ 23/7/1966م (الأهرام بتاريخ 23/11/1966م)..

وفى ديسمبر 1967م سار أكبر موكب صوفى رسمى فى مصر تأييدًا للقيادة السياسية فى أعقاب هزيمة 1967م؛ مما يؤكد على استمرارية دورها القديم فى تأييد النظام السياسى، وخاصة فى أوقات الأزمات السياسية الداخلية أو الخارجية..

*وهذا في تقديرنا: أن دور الصوفية هو دور الاسلام والإيمان المعتدل السمح، الذي قادت به – ولا تزال – الطرق الصوفية.. والذي يدرك أهمية وجود الدولة وبقاء جيشها الوطني.. وليس هدمها وتقويض قوتها العسكرية، كما ذهبت تنظيمات الغلو من الإخوان إلى القاعدة وداعش وغيرها من التنظيمات، التي أضرت بالإسلام قبل أن تضر بالدول.. والله أعلم ..

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (14)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …