قال الإسكندري: البينة الثانية ـ سيدي القاضي ـ هي إعلان ابن تيمية الحرب في كتبه الكثيرة على الأضرحة والمقامات المبنية على الأولياء والصالحين، والتي جرى عرف الأمة على احترامها وتعظيمها، لنشر قيم الصلاح، وحفظ تاريخ الصالحين، والتبرك بهم وبآثارهم..
الدكتور نور الدين أبو لحية
بقية: 1 ـ ابن تيمية والممارسات الصوفية:
البينة الثانية:
قال القاضي: وعيت هذا.. فهات البينة الثانية.
قال الإسكندري: البينة الثانية ـ سيدي القاضي ـ هي إعلان ابن تيمية الحرب في كتبه الكثيرة على الأضرحة والمقامات المبنية على الأولياء والصالحين، والتي جرى عرف الأمة على احترامها وتعظيمها، لنشر قيم الصلاح، وحفظ تاريخ الصالحين، والتبرك بهم وبآثارهم..
وقد علمتَ سيدي القاضي موقفه من قبر رسول الله J وتبديعه لزائريه، بل اعتبار السفر لأجله معصية لا تقصر لها الصلاة.
قال القاضي: أجل.. علمت ذلك منكم في التهمة الثانية.
قال الإسكندري: وهكذا تعامل مع الآثار التي يعظمها المؤمنون، والتي تربطهم بالصالحين، والتي وردت الأدلة الكثيرة على جوازها، بل على الترغيب فيها، وقد كتب فقهاؤنا من الصوفية الكثير من الرسائل والكتب الدالة على ذلك.. لكن ابن تيمية لم يأبه لذلك كله.. فراح يجرم ذلك، ويفتي فتاواه المتشددة في شأنها.
ومن ذلك قوله في [مجموع الفتاوى]: (وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها فبدعة؛ لم يكن على عهد الصحابة؛ ولا التابعين؛ ولا تابعيهم؛ بل ولا على عهد الأربعة. وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور؛ ولا الإعانة على ذلك بوقف ولا غيره؛ ولا النذر لها؛ ولا العكوف عليها؛ ولا فضيلة للصلاة والدعاء فيها على المساجد الخالية عن القبور؛ فإنه يعرف أن هذا خلاف دين الإسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة؛ فإنه إن لم يرجع فإنه يستتاب)([1]).
والاستتابة عنده يعقبها القتل.. كما رأينا ذلك سيدي القاضي في مواقفه المختلفة..
وقد كان هذا الموقف مددًا للوهابية ابتداء من شيخهم ابن عبد الوهاب في إعلان حربهم على المسلمين، حيث نجد ابن عبد الوهاب وحفدته وتلاميذه كلهم ينقلون من كلام ابن تيمية ما يؤيدون به جرائمهم في حق الأمة.
ومن ذلك ما أورده في بعض رسائله من كلام ابن تيمية ليثبت لهم أن ما يقوم به الصوفية من الذبح في الموالد والمناسبات المختلفة شرك أكبر يخرج عن دين الإسلام، فقد نقل عن ابن تيمية قوله في كتابه [اقتضاء الصراط المستقيم] تعليقًا على قوله تعالى: ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [المائدة: 3]: (ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود: فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح، ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للَّحم، وقلنا عليه: باسم الله، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم شركًا من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك، أولى. وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله، ولم يحرم ما ذبح لغير الله، كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم، بل لو قيل بالعكس لكان أوجه، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرًا من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربًا به إليه لحرم وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الأولياء والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان)([2]).
وقد علق على هذا النص الصريح بالتكفير بقوله: (وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة، وتصريحه أن المنافق يصير مرتدًّا بذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة المعين)([3]).
وهكذا يورد نصًّا لابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية النجيب ـ يؤكد فيه على أن ما ذكره ابن تيمية من الحكم بالشرك على الصوفية الذين يحترمون الأولياء، ويعظمون ما يرتبط بهم من آثار، فقد قال في ذلك: (وقال ابن القيم في (إغاثة اللهــفان) في إنكار تعظيم القبور: (وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه (مناسك المشاهد) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام).. وهذا الذي ذكره ابن القيم رجل من المصنفين يقال له: ابن المفيد: فقد رأيت ما قال فيه بعينه، فكيف ينكر تكفير المعين)([4]).
وهكذا قال محمد بن ناصر التهامي بعد نقله نصوصًا لابن تيمية وابن القيم، وعقب عليها بقوله: (فهذه نصوص ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قاضية بكفر من اعتقد النفع والضر في مخلوق ونذر له، أو دعا له، أو استغاث به، وهو صريح في ذلك كفر أكبر يحل الدم والمال، إذا عرفت هذا فقد انتفض على صاحب الرسالة ما طول به، وبذل فيه مجهوده أن أفعال هؤلاء من الشرك الأصغر، زاعمًا أن ذلك صريح قول ابن القيم وشيخه ابن تيمية الذين قصد الذب عنهم بما هم فيه مصرحون بأنه شرك أكبر، والأدلة القرآنية قاضية بما صرحا به، ولو أراد إنسان أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسنة لكان مجلدًا ضخمًا …).
التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول أنت؟
قلت: صدق سيدي القاضي.. فابن عبد الوهاب وتلاميذه وحفدته من بعده ليسوا سوى تلاميذ لكتب ابن تيمية، ولولا تلمذتهم على ما فيها من تكفير وتضليل وتبديع للأمة، لما أقدموا على ذلك..
=========================
([2]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/64).