الحكمة الثالثة والأربعون بعد المائة
من سُلِّط عليه الرجاء هلك بالأمن، ومن سُلط عليه الخوف هلك بالقُنوط.
الأستاذ سميح محمود قنديل
الرجاء والخوف مقامان من مقامات اليقين، يجب على العبد أن يتحصن بهما فى حضرة الرب سبحانه، وبينهما برزخ لا يبغيان، وعليه أن يعرف حقائقهما وحدودها؛ حتى لا يتجاوزهما فيشقى؛ لأنه كما جاء فى الحكمة التى معنا: من سُلط عليه الرجاء هلك بالأمن، ومن سُلط عليه الخوف هلك بالقنوط، فالأمن إلى جانب الله كبيرة، وكذلك اليأس والقنوط من رحمة الله كبيرة، وقد أمرنا أن نجتنب الكبائر، وكما يقول الإمام 0 فى الحكمة الأخرى: الحالُ: محبَّة وخشية، فمن تسلطت عليه المحبة من غير خشية هلك بالأمن، ومن تسلطت عليه الخشية من غير محبة هلك بالقنوط.
وما أجمل الرجاء فى رحمة الرحيم، والخوف من عذاب الجحيم، وما ألذ مناجاة طالب الله حين يناجى ربه، راجيًا أن يرفع سبحانه عن عين قلبه الحجب المانعة؛ حتى يشاهد أنواره الساطعة، وطالب الله: لا يناجى إلا صفات الحق سبحانه، وهى حَرِية بالاستجابة، فترفع الحجب، وتزال الستائر، وينجلى المراد ليَنعِّم العين والفؤاد، وقد قدم الرجاء على الخوف عند التوبة، والخوف على الرجاء إن منحك قربة، فإن الفضل بيده والأمر منه وإليه، وقد أخفى عنك سر القدر ليستوى الخوف والرجاء، ولتعبده لذاته لا للنجاة والعطاء.
الرجاء مقام جليل وحال شريف نبيل
الرجاء هو اسم لقوة الطمع فى الشىء، بمنزلة الخوف اسم لقوة الحذر من الشىء، ولذلك أقام الله تعالى الطمع مقام الرجاء فى التثنية، وأقام الحذر مقام الخوف فقال I: )يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا( (السجدة: 16)، وقال تعالى: )يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ( (الزمر: 9)، وهو وصْف من أوصاف المؤمنين، وخُلق من أخلاق الإيمان، لا يصلح إلا به، كما لا يصح الإيمان إلا بالخوف، فالرجاء بمنزلة أحد جناحى الطير لا يطير إلا بجناحيه، كذلك لا يؤمن من لا يرجو من آمن به ويخافه، وهو مقام من حسن الظن بالله تعالى، وجميل التأميل له، فلذلك أوصى سيدنا رسول الله J بقوله: (لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله تعالى) رواه مسلم عن جابر؛ لأنه قال عن الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدى بى فليظن بى ما شاء) الصحيحين من حديث أبى هريرة، وكان ابن مسعود 0 يحلف بالله تعالى: ما أحسن عبد بالله تعالى ظنه؛ إلا أعطاه الله تعالى ذلك؛ لأن الخير كله بيده، أى: فإذا أعطاه حسن الظن به فقد أعطاه ما يظنه؛ لأن الذى حسن ظنه به هو الذى أراد أن يحققه له.
ودخل رسول الله J على رجل وهو فى سياق الموت، فقال: (كيف تجدك؟ فقال: أجدنى أخاف ذنوبى، وأرجو رحمة ربى، فقال J: (ما اجتمعا فى قلب عبد فى هذا الموطن؛ إلا أعطاه الله ما رجا، وآمنه مما يخاف)، ولذلك قال الإمام علىّ A للرجل الذى أطار الخوف عقله؛ حتى أخرجه إلى القنوط، فقال له: يا هذا يأسك من رحمة الله تعالى أعظم من ذنبك؛ لأن اليأس من روح الله تعالى، الذى يستريح إليه المكروب من ذنوبه، والقنوط من رحمة الله التى يرجوها المبتلى بالذنوب، أعظم من ذنوبه؛ لأنه قطع بهواه على صفات الله تعالى المرجُوة، وحكم علىَ كرَم وجهه سبحانه بصفته المذمومة، فكان ذلك مـن أكبر الكبائر، وإن كانت ذنوبه كبائر، وهكذا جاء فى تفسير: )وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ( (البقرة: 195)، قال: هو العبد يذنب الكبائر، ويلقى بيده إلى التهلكة ولا يتوب، ويقول: قد هلكت لا ينفعنى عمل، فنهوا عن ذلك.
والرجاء مقام جليل وحال شريف نبيل، لا يصح إلا للكرماء، من أهل العلم والحياء، وهو حال يحول عليهم بعد مقام الخوف، يُروَّحون به من الكرب، ويستريحون إليه من مفارقة الذنب، ومن لم يعرف الخوف لم يعرف الرجاء، ومن لم يقم فى مقام الخوف لم يُرفع إلى مقامات أهل الرجاء، على صحة وصفاء، ورجاء كل عبد من حيث خوفه، ومكاشفته عن أخلاق مرجُوِّه.
وروى أن لقمان A قال لابنه: خَف الله تعالى خوفًا لا تأمن فيه مكره، وارجه رجاءً أشد من خوفك، قال: كيف أستطيع ذلك وإنما لى قلب واحد؟ قال: أما علمت أن المؤمن كذى قلبين يخاف بأحدهما ويرجو بالآخر؟.
الخوف: تنزيهُ السِّر عن السِّوَى
الخوف اسم لحقيقة التقوى، والتقوى معنى جامع للعبادة، وهى رحمة الله تعالى للأولين والآخرين، ينظم هذين المعنيين قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( (البقرة: 21)، وقوله تعالى: )وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ( (النساء: 131)، وهذه الآية قطب القرآن مداره عليها، والتقوى سبب أضافه تعالى إليه تشريفًا له، ومعنى وصله بـه وأكرم عباده عليه تعظيمًا له، فقال سبحانه: )لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ( (الحج: 37)، وقال عز وجل: )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ( (الحجرات: 13).
ويعلمنا إمامنا أن مقام الخوف: تنزيه السر عن السوى، ومن خاف الله مولاه، خاف منه كل من سواه، وإذا لم تخف أن يهلكك الله بالنقص الذى فى أعمالك الصالحة، فضلًا عن معاصيك، فأنت هالك، وإن الله يرفع العبد بخوف ساعة، أكثر مما يرفعه بعمل سنين، وعند الإمام أن الخشوع: انكسار القلب والجوارح، خشية من الله تعالى، والخشية: خوف ناتج عن الرعاية، والراهب: من رهب من الله تعالى، والمغرور: من أمِن على نفسه، وخاف على غيره، ولسان حال العارف يقول: لولا طمعى فيما هو منك، ليَأسَنِى ما هو منى.
وفى الخبر: (إذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، ناداهم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم، يقول: يا أيها الناس: إنى قد أنصَت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، فأنصتوا إلىَّ اليوم، فإنما هى أعمالكم ترَد عليكم، أيها الناس: إنى جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا، فوضعتم نسبى ورفعتم نسبكم، قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وأبيتم إلا فلان وفلان أغنى من فلان وفلان، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبى، أين المتقون، قال: فينصب للقوم لواءهم إلى منازلهم، فيدخلهم الجنة بغير حساب) الطبرانى فى الأوسط والحاكم فى المستدرك.
ومن ثمرات الخوف: اليقين بالله عز وجل، والحياء منه سبحانه، وهو أعلى سريرات أهل المزيد، يستبين أحكام ذلك فى معنيين هما جملة العبد: أن يحفظ رأسه وما حواه من السمع والبصر واللسان، وأن يحفظ بطنه وما وعاه، وهو القلب والفرج واليد والرجل، وهذا خوف العموم وهو أول الحياء، أما خوف الخصوص فهـو أن لا يجمع ما لا يأكل، ولا يبنى ما لا يسكن، ولا يكاثر فيما عنه ينتقل، ولا يغفل ولا يفرط عما إليه يرتحل، وهذا هو الزهد، وهو حياء مزيد أهل الحياء من تقوى أصحاب اليمين.
والمخاوف أنواع منها: خوف الجنايات والاكتساب، وخوف الوعيد وسر العقاب، وخوف التقصير فى الأمر، وخوف مجاوزة الحد، وخوف سلب المزيد، وخوف حجاب اليقظة بالغفلة، وخوف حدوث الفترة بعد الاجتهاد، وخوف وهن العزم بعد القوة، وخوف نكث العهد بنقض التوبة، وخوف الوقوع فى الابتلاء بالسبب الذى وقعت منه التوبة، وخوف عود الاعوجاج عن الاستقامة، وخوف العادة بالشهوة، وخوف الحور بعد الكور، وهو الرجوع عن الحجة إلى طريق الهوى وحرث الدنيا، وخوف إطلاع الله تعالى عليهم عند ما سلف من ذنوبهم، ونظره إليهم على قبيح فعلهم، فيعرض عنهم ويمقتهم، وخوف النفاق، وخوف حبوط الأعمال، وخوف سلب الإيمان، وهذه كلها مخاوف، وطرقات لأهل المعارف، وبعضها أعلى من بعض، وبعضهم أشد خوفًا من بعض.
نسأل الله أن لا يسلط علينا الرجاء فنهلك بالأمن، وأن لا يسلط علينا الخوف فنهلك بالقنوط، وأن يرزقنا السداد والإخلاص فى القول والعمل.