إن بعض الناس إن رجعوا إلى كلماتك المقدسة، راحوا يتشبثون بالحروف، وينسون المعاني، ويغفلون عنها.. فيشوهونك ويشبهونك ويجسمونك…
أ. د. نور الدين أبو لحية
بقية: الحقائق والرموز
إن بعض الناس إن رجعوا إلى كلماتك المقدسة، راحوا يتشبثون بالحروف، وينسون المعاني، ويغفلون عنها.. فيشوهونك ويشبهونك ويجسمونك.
ولو أنهم عادوا لكلماتك المقدسة نفسها، وطبقوا هذه المقاييس التي طبقوها على تلك الآيات الكريمة، لعلموا أن مرادك أعظم من أن يكون تلك الظواهر التي فهموها، فقد قلت في كلماتك المقدسة عند ذكرك للمنافقين: )نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ( [التوبة: 67]، فهل يمكن أن يجرؤوا أحد على وصفك بالنسيان.. وهل يستقيم النسيان مع العلم.. وهل يستقيم النسيان مع العظمة؟
وهكذا قلت عنهم: )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ( [النساء: 142]، وهل يستقيم مع عظمتك المطلقة، ورحمتك الواسعة، أن تكون مخادعًا.. فالخداع لا يكون إلا للضعفاء الذين تعوزهم القدرة، فيلجؤون إلى الحيلة.
وهكذا ذكر نبيك J رحمتك بعبادك، وعنايتك بهم، وشبه ذلك باعتناء الوالد بعياله، فقال: (الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)([1])، فهل يمكن لأحد من الناس أن يفهم من هذا الحديث ظاهره، فينسب لك الولد والعيال؟
فكل هذه الألفاظ لم تُرد منها يا رب ظواهرها، وإنما أردت منها المعاني التي تقف خلفها، وهي معان متناسبة مع جلالك وجمالك وكمالك.. ومتناسبة مع اللغة التي خاطبت بها خلقك، والتي يستعملون فيها نفس تلك التعابير.
وليتهم اكتفوا بذلك يا رب.. بل راحت شياطين الإنس والجن تزودهم بالكثير من الروايات التي لم تزد عقولهم إلا ارتكاسًا وتشبيهًا وتجسيمًا ووهمًا.
لقد قال أحدهم يصف عظمتك: (يطوي الله عز وجل السموات السبع بما فيهن من الخلائق، والأرضين بما فيهن من الخلائق، يطوي كل ذلك بيمينه، فلا يُرى من عند الإبهام شيء، ولا يرى من عند الخنصر شيء، فيكون ذلك كله في كفه بمنزلة خردلة)([2]).
وقال آخر متهكمًا من الذين ينزهونك، ويقدسونك: (إذا كانت السموات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا، والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك، فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان، فضلًا عن أن يقبض بهما شيئًا، فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة، وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له، وللجهمية والمعطلة من هذا الذم أوفر نصيب)([3]).
وقال آخر يصفك بالملل: (جاء في الحديث عن النبي J قولـه: (فإنَّ الله لا يَمَلُّ؛ حتى تملوا)([4])، فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن؛ ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص ؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالًا)([5]).
وراح يصفك بالهرولة، فقال: (صفة الهرولة ثابتة لله تعالى كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم، فذكر الحديث وفيه: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وهذه الهرولة صفة من صفات أفعاله التي يجب علينا الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل؛ لأنه أخبر بها عن نفسه وهو أعلم بنفسه فوجب علينا قبولها بدون تكييف)([6]).
يا رب.. فأسألك أن تعيذني من الجهل الذي يبعدني عنك، وأن تطهر عقلي من كثافة التشبيه والتجسيم، وأن تجعلني ألجأ إليك كل حين، فأنت العاصم الذي يعصم العقول من أن تقع في هذه الانتكاسات.
وأعوذ بك يا رب أن أترك المحكم الواضح الظاهر الذي اتفقت فيه العقول مع كلماتك المقدسة، وأتشبث بالمتشابه الذي صار فتنة للمحجوبين بالرموز عن الحقائق.
لقد ذكرت ذلك يا رب، ونبهتنا إليه، وحذرتنا منه، فقلت: )هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ( [آل عمران: 7]
فاجعلني يا رب من الراسخين في العلم الذين يميزون بين الحقائق والألفاظ، ويعرفون أن الألفاظ أضعف من أن تعبر عنك، وأنك أعظم من أن توضع في تلك القوالب التي لم يضعها البشر إلا للتعبير عن أنفسهم وحاجاتهم.
=================================
([1]) المعجم الكبير للطبراني 10/86 ح (10033).
([4]) رواه البخاري (43). ومسلم (785).