أنا أعلم يا رب أنك ما خلطت هذه الدار بتلك الكدورات إلا لتنبهنا وتربينا وتهذب أخلاقنا.. فقد رأيت بعضهم يغتر بصحته، ويفخر على من حوله بكونه لم يمرض في حياته أبدًا، وبدل أن يشكرك، ويتواضع لعظمتك، راح يستعلي عليك، وعلى خلق الله، ويذيقهم بأس عضلاته المفتولة، وعقله الفارغ…
أ. د. نور الدين أبو لحية
بقية: الخير الأعظم
إلهي.. لقد رأيت بعض المستكبرين الجاحدين يرتدي نظارة سوداء قاتمة، ثم يطل من خرم إبرة على بعض مظاهر الشقاء الموجودة في الدنيا، ثم يقول باستعلاء مخاطبًا بعض المغفلين المحيطين به: (ما دام الشر موجودًا.. فالله ليس بموجود.. ذلك أنه إما أن يريد منع الشر لكنه لا يقدر؛ فهو إذن عاجز.. أو هو يقدر لكنه لا يريد؛ فهو إذن بغيض… أو هو قادر ويريد معًا؛ فهو إذن شرير)([1]).
يا ويله.. كيف يفكر هذا الذي يدعي العلم والفلسفة؟
فلو أنه اكتفى بالثقة في هذا العظيم الذي أبدع هذا الكون بمنتهى الدقة والحكمة واللطف، لعرف أنه يستحيل عليه أن يفعل شيئًا من دون أن تكون خلفه حكمة.. وعرف أن الجهل بالحكمة لا يعني عدم وجودها.
هو يفعل ذلك مع من يعظمهم من العلماء والفلاسفة والمفكرين.. فيكتفي فقط بعرض أفكارهم ونظرياتهم، ويعتبر مجرد نسبتها إليهم كافية في إثباتها..
وهكذا لو أنه اكتفى بذلك منك، وراح يثق فيك، كما يثق فيهم لوجد عشرات الحلول التي تحل له هذه التي سماها معضلة.
وأول ذلك النظر في الآثار العظيمة التي يحدثها البلاء في النفوس والمجتمعات، فلولاه لم يكن هناك شيء اسمه صبر، ولا رحمة، ولا حزن، ولا ألم.. وكلها وإن كانت قاسية إلا أن لها آثارها في التهذيب والتربية والإصلاح.
ولو أنه عرف ـ من خلال ما أنزلته في كلماتك المقدسة على جميع أنبيائك ـ أن هذه الدار، ليست دار قرار، وإنما هي دار اختبار، ولفترة محدودة، وأن ضيافتك الحقيقية معدة هناك، ولكنها معدة للطيبين فقط، أولئك الذين ينجحون في الاختبار.. لعرف أن الشر الذي يراه ليس سوى امتحان مثل تلك الامتحانات التي نجريها في الدنيا، لاختبار من نريد توظيفهم في أي وظيفة من الوظائف.
فهل رأى العالم أجمع أحدًا يرقى لأي منصب، أو ينال أي شهادة، أو يطمع في أي مكسب من دون أن يبذل أي جهد، أو يعاني أي عناء، أو يضحي أي تضحية؟
فإن كان هذا في مكاسب الدنيا التي تفنى، فكيف في مكاسب الآخرة التي لا تنتهي أبدًا؟
لقد قلت تذكر لنبيك هذا بعد كل ذلك البلاء الذي عاناه: )وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى( (الضحى: 4، 5).
وذكرت له آثار ما نزل به في حياته من آلام، فقلت: )أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( (الضحى: 6 – 11).
وهكذا كان يمكن لذلك الجاحد أن يجد عشرات الحلول لتلك التي سماها معضلة، ويتأدب معك، ومع خلق الله الذي غواهم..
ولكنه يا رب لم يفعل.. لا لأنك لم تهده، أو لم تدله على السراط المستقيم.. وإنما لأنه لم يرد أن يسمع لك، ولا أن يسلك طريقك المستقيم.
لقد امتلأ بحب نفسه وأهوائه، وقد رأى أنك عقبة تحول بينه وبين تلك الأهواء الآثمة، فلذلك لم يجد حلًّا للفرار منك سوى الجحود، واستعمال البلاء وسيلة لذلك.
هو مثل ذلك التلميذ الكسول الذي يبحث عن أي فرصة، ليفر من بين يدي أستاذه، فلذلك إذا ما سمع من أستاذه أي كلمة نابية، أو فرض عليه بعض الواجبات الثقيلة، راح يفر منه، ويتذرع بأن أستاذه لم يرد به إلا الشر، مع أنه لم يرد به إلا الخير.
أو مثل ذلك الذي يفر من الطبيب الجراح الذي يريد أن يستأصل ما يؤذيه بحجة أن الجراح يحمل سكينًا، وهل يمكن للجراح أن يؤدي وظيفته من غير سكين؟
وهكذا لو تأمل هؤلاء في أي شيء، فسيجدون رحمتك محيطة بكل شيء؛ حتى في ذلك البلاء الذي يتألمون.
لو أنهم فعلوا ذلك لحولت ـ بفضلك وكرمك ـ النار عليهم بردًا وسلامًا، ولما شعروا بالآلام النازلة بهم.
وكيف يشعر بالآلام من يعلم أنه سيعود إليك، ويسكن دار السعادة التي لا نصب فيها ولا وصب، ولا حزن، ولا ألم، ولا شقاء؟
وكيف يشعر بالآلام من يعلم أن الدنيا كلها ساعات محدودة أمام حبل الزمن الممتد إلى ما لا نهاية: )كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغ( (الأحقاف: 35)؟، )كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا( (النازعات: 46)؟
وكيف يشعر بالألم من يعلم أن كل ثانية تمر في البلاء، يتضاعف فيها رصيد الفضل الإلهي الدائم الممتد، وقد قال نبيك يخبرنا عن ذلك: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك من نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسًا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك من شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)([2]).
وقال: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض)([3]).
يا رب.. أسألك أن تملأ حياتي بالنظر إليك، والاكتفاء بك.. فأنت الخير الأعظم الذي لا تحل الطمأنينة إلا لمن لجأ إليه، وسكن في حضرته، وسجد قلبه لعظمته.
اجعل يا رب قلبي ساجدًا لك سجودًا أبديًّا، فلا نعمة إلا في السجود لك، ولا فضل إلا في القرب منك.
([1]) هذا نص [معضلة الشر] التي ذكرها أبيقور، ثم تبناها بعده كل الملاحدة، وهي تعتبر في الغرب اليوم، أهم شبهة إلحادية، وقد صرح كثير من أئمة الإلحاد، مثل (أنتوني فلو)، أهم منظري الإلحاد في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين، قبل تراجعه في بداية القرن الواحد والعشرين، أن شبهة الشر هي سبب إلحادهم، وجحدهم وجود إله خالق .. وهكذا نرى الفيلسوف الأمريكي (مايكل تولي) في مناظرته مع (ويليام لين كريغ) (2010م)، اكتفى تقريبًا باستعراض مشكلة الشر لإنكار وجود الخالق، مصرحًا أن الحجة المركزية للإلحاد هي حجة الشر، وهو ما فعله أيضًا الفيلسوف البريطاني الملحد (ستيفن لاو)، في مناظرته مع كريغ (2011 م)، وقد نشر (باري وتني) دراسة ببليوغرافية عن المؤلفات الفلسفية واللاهوتية التي نشرت عن مشكلة الشر في ثلاثة عقود فقط، من (1960 – 1990م)، فإذا هي تبلغ 4200 دراسة.
=============================