أخبار عاجلة

الدروس المستفادة من تحويل القبلة في نصف شعبان

قبل غزوة بدر الكبرى، نجد أحداثًا مهمة كانت لازمة لتكميل شخصية المجاهدين قبل الجهاد العملى فى غزوة بدر، وهى: تحويل القبلة، وفرض الصيام…

الدكتور عبدالحليم العزمي

الأمين العام للاتحاد العالمي للطرق الصوفية

قبل غزوة بدر الكبرى، نجد أحداثًا مهمة كانت لازمة لتكميل شخصية المجاهدين قبل الجهاد العملى فى غزوة بدر، وهى: تحويل القبلة، وفرض الصيام.

وتحويل القبلة كان المَعلم الثانى من معالم تحديد الهوية والشخصية الإسلامية بعد الأذان؛ إلا أنه كان الأخطر بالنسبة لليهود والمشركين والمنافقين والمسلمين.

فلقد كان صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة يصلى ناحية بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ثم بعد الهجرة تعذر أن يجمع بينهما؛ لأن المدينة بين مكة وبيت المقدس.

وكان اليهود يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. وفى رواية بالسيرة الحلبية قالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدًى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها([1]).

وقال كفار قريش للمسلمين: لم تقولون نحن على ملة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟([2]).

فكان صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من النظر فى السماء ينتظر أمر الله تعالى بتحويل القبلة، ونظره للسماء؛ لأنها قبلة الدعاء.

فأنزل الله تعالى قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 144).

الحرف (في) يفيد الاستعلاء لكونه بعيدًا عن ظرفيَّةِ التمَكُّنِ، نحو قولك: (أقامه فى القضاء)، والمعنى جعله فوق القضاء رئيسًا له، فالآية تجعل النبى فوق السماء مكانًا ومكانة، وكيف لا؟، وهو الذى تجاوز السماوات والعرش وسدرة المنتهى إلى أن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. ولم يقل ربنا: (إلى السماء)؛ لأن إلى تشير للجهة، ومنتهى الغاية، والله مُنزه عن الجهة، ولا يليق أن تكون منتهى غايته صلى الله عليه وآله وسلم هى السماء.

يقول الإمام أبو العزائم فى أسرار القرآن([3]): (يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بعبارةٍ تدلُّ على المواجهة والخطاب؛ طمأنينة لقلبه صلى الله عليه وآله وسلم ، ومسارعة فى الاستجابة له صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول: )قَدْ نَرَى(، والرؤية تكون بمعنى العلم، وبمعنى البصر…

ويبين سبحانه حكمة تقلب وجهه صلى الله عليه وآله وسلم فى السماء أنها لتعيين القبلة التى يحبها وهى الكعبة المكرمة؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وآله وسلم يرى بنور قلبه أن قبلته الدائمة هى الكعبة، وأن الله تعالى ما أمره بأن يولى وجهه شطر بيت المقدس إلا لحكمة.. وجائز أن يكون ذلك تضرعًا إلى الله تعالى فى أن يجعل قبلته الكعبة، فلباه الله تعالى وأخبره أنه بأعينه وسمعه…).

ويضيف الإمام أبو العزائم: (وفى قوله تعالى: (تَرْضَاهَا) برهان على محبة الله له صلى الله عليه وآله وسلم ، وكمال عنايته به، واختصاصه بمزيد فضله، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكره ما يقوله اليهود، ويحب أن يوجه وجهه إلى بيت أبيه الخليل إبراهيم، وهممه صلى الله عليه وآله وسلم مؤيدةٌ بروح القدس، فلا يهتم إلا بمراد الله الذى أراده أزلًا؛ لأن الله تعالى يقول: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3)، فإذا كان نطقه بالوحى، فيكف تكون إرادته وهممه؟.

والقبلة التى يرضاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبر الله عنها بأنها هى التى يرضاها الله جلت أسماؤه؛ لاتحاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالله تعالى إرادةً وأمرًا؛ لأن الله تعالى صاغه من نور العزة بدليل ما رواه الإمام التُسْتُرى بسنده قال: (لقد بلغني أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا دواد، انظر لا أفوتُك أنا، فيفـوتك كل شىء، فإنى خلقت محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم لأجلى، وخلقت آدم عليه السلام لأجله، وخلقـت عبادي المؤمنين لعبادتى، وخلقت الأشياء لأجل ابن آدم، فإذا اشتغل بما خلقته من أجله حجبته عما خلقته من أجلى)([4]).

وكان تحويل القبلة على أرجح الأقوال – كما ذكر الطبرى وابن كثير وابن هشام وصاحب السيرة الحلبية والقسطلانى وغيرهم – فى ليلة النصف من شعبان من السنة الثانية([5]).

كيف تحوَّل صلى الله عليه وآله وسلم ؟

ذكر القسطلانى فى المواهب، وصاحب السيرة الحلبية، والإمام أبو العزائم فى النجاة: (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زائرًا أم بشر بن البراء ابن معرور فى بنى سلمة فصنعت له طعامًا، وحانت صلاة الظهر فصلى صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه فى مسجد هناك، فلما صلى ركعتين أوحى الله تعالى إليه – وهو فى الركوع بالركعة الثانية – بآية التحويل (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة: 144)([6]).

وبعد أن خاطب حبيبه ومصطفاه تفضل جل جلاله فخاطبنا خطاب القريب للقريب، فأنزلنا منزلة المقربين منه سبحانه وتعالى بقوله: (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة: 144).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم مُتَوَجِّهًا إلى بيت المقدس صوب الجدار الشمالى فاستدار صلى الله عليه وآله وسلم واستدار أصحابه معه؛ حتى وجَّه وجهه الشريف وهو فى الركوع إلى الجدار الجنوبى لمواجهة الكعبة المكرمة؛ حتى صار النساء فى موضع الرجال، والرجال فى موضع النساء، أى: فقد تحول من مقدم المسجد إلى مُؤَخِّرِهِ؛ لأنه لو دار كما هو لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف.. وسمى ذلك مسجد القبلتين، وهو كذلك إلى اليوم.

تحوَّلوا بخبر الفرد

ذكر ابن كثير فى السيرة: فلما نزل الأمر بتحويل القبلة خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين وأعلمهم بذلك([7]).

وذكر صاحب السيرة الحلبية والإمام أبو العزائم: خرج عبَّاد بن بشر- وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – ومر بجماعة من الأنصار يصلون العصر فى مسجد لهم وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقبلًا الكعبة، ثم جاء قُباء والصحابة يصلون الصبح فأخبرهم وهم فى الركعة الثانية فاستداروا وهم ركوع إلى الكعبة([8]).

وجاء فى الصحيحين البخارى ومسلم عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء فى صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة([9]).

وفى صحيح مسلم بدل صلاة الصبح صلاة الغداة([10]). قال الحافظ ابن حجر: وهو أحد أسمائها([11]).

قال صاحب السيرة الحلبية: ولم ينقل أنهم أمروا بقضاء العصر والمغرب والعشاء، ولا إعادة الركعة التى صلوها فى الصبح، وهو دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله، وعلى أنه يجوز ترك الأمر المقطوع به وهو استقبال بيت المقدس إلى أمر مظنون وهو خبر الواحد([12]).

يعطينا الإمام أبو العزائم فى كتابه النجاة الدرس المستفاد من ذلك بقوله:

(والمسلم حقًّا من إذا بلغه عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يخالف ما هو عليه، سارع إلى ترك ما هو عليه إلى ما بلغه تصديقًا للمخبر، وتحقيقًا بأنه متبع لا مبتدع، خوفًا من أن يبلغه عن رسول الله أمر ويصر على ما هو عليه، فيكون مخالفًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعملًا بقوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7)، بلا تأويل، وله أن يتحرى الحق بعد ذلك، وهذا عمل الصحابة، وعمل السلف الصالح بعدهم رضوان الله عليهم أجمعين)([13]).

هذا درسٌ مهمٌّ وخطيرٌ، نتعلم منه أن الإيمان الحقيقى هو التصديق الفورى لخبر السماء، وذلك دون أدنى تردد أو شك، والإذعان والخضوع والتسليم لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، واستقبال هذه الأوامر بعيون القلوب لا بعيون الرؤوس.

حديث السفهاء

قال صاحب السيرة الحلبية: واجتمع قوم من كبار اليهود، وجاءوا إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا له: يا محمد ما ولَّاك عن قبلتك التى كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟، وهو نوع من التدليس؛ لأن الخليل إبراهيم لم يصلِّ إلى بيت المقدس، وفى رواية قالوا: ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها نتبعك ونصدقك، وكانوا يقصدون بذلك فتنته صلى الله عليه وآله وسلم ؛ ليعلم الناس أنه فى حيرة من أمره([14]).

وقيل: اختبارًا لما يجدونه فى نعته صلى الله عليه وآله وسلم من أنه يرجع عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة، وأنه لا يرجع عن تلك القبلة.

ذكر القسطلانى فى المواهب: قالت اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضى قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبى الذى ننتظر أن يأتى، فأنزل الله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) (البقرة: 144)، فيعنى أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليها بما فى كتبهم عن أنبيائهم([15]).

ويوافق ذلك ما ذكره الإمام السُّبكي فى تائيته:

وَصَلَّيْتَ نَحْوَ الْقِبْلَتَيْنِ تَفَرُّدًا

وَكُلُّ نَبِىٍّ مَّا لَهُ غَيْرُ قِبْلَــــةِ

قال صاحب السيرة الحلبية: ومن ثَمَّ جاء فى التوراة فى وصفه صلى الله عليه وآله وسلم (صاحب القبلتين)([16]).

ولما توجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكعبة قال المشركون من أهل مكة: توجه محمد بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك، أى: يقرب، أن يدخل فى دينكم.

ومن كلام اليهود والمشركين ارتد جماعة عن الإسلام وقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا. وقال المنافقون: ما يدرى محمد أين يتوجه، إن كانت الأولى حقًّا، فقد تركها، وإن كانت الثانية هى الحق، فقد كان على باطل.

وصف القرآن

يخبرنا ربنا عن اليهود والمنافقين والمشركين من معاصرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أشاعوا أنه تردد فى قبلته، والذين سيرددون مثل أقوالهم إلى قيام الساعة بأنهم سفهاء، والسفه هو وضع الشىء فى غير موضعه؛ إفسادًا للمال، وكل من وقع منه السَّفَهُ يُحْجَرُ عليه ويُقَامُ له وصي، أما السفه فى الدين فالحجر على صاحبه أولى، ويعتبر رأيه وعقيدته ومبدؤهُ كرأى البهائم السَّائمة لا يُعتنى به.. فقال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا) (البقرة: 143)، ولم يكن إنكارهم هذا إلا عنادًا وبغضًا للحق وأهله، وفتحًا لأبواب الفتن على أهل الحق، فقهرهم الله تعالى وأذلهم بقوله سبحانه: (قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (البقرة: 143)، يعنى أن الجهات الست لله تعالى، ومتى كانت الجهات لله كان الحكم له سبحانه فى اختصاص أى جهة لتكون قبلة للصلاة؛ لأنه سبحانه هو المتصرف فيما أبدع وخلق، ولا يُسْئَلُ عما يفعل.

وقد تفضل الحق سبحانه بأن هدى أحبابه من المسلمين إلى القبلة التى يرضاها الله ورسوله، فكبت أهل العناد الذين حسدوا المسلمين على ما آتاهم الله من فضله، كما ورد فى الحديث الذى رواه الإمام أحمد عن السيدة عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اليهود لا يحسدوننا على شىء كما يَحْسُدُونَنَا على يوم الجمعة، التى هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى القبلة التى هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين)([17]).

من مات قبل تحويل القبلة

لمَّا حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجد قُبَاءَ فقدم جدار المسجد موضعه الآن، وقالت الصحابة له: ماذا يعمل إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قِبل بيت المقدس؟ وماذا نعمل فى صلاتنا التى صلَّيْنَاها من قبل؟.

وكان عدد الذين ماتوا قبل تحويل القبلة عشرين، ثمانية عشر من أهل مكة، واثنين من الأنصار، وهما البَرَاءُ بن معرور، وأسعد بن زرارة، وقيل: ثالث هو كلثوم بن الهدم.

فطمأن الله قلوبهم وشرح صدورهم بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 143).

والمعنى أن الله رءوف رحيم كريم، وهو الذى أمركم أن تصلوا جهة بيت المقدس وحفظ أعمالكم، وهو الذى أمركم أن تولُّوا وجوهكم شطر المسجد الحرام، ولم ينقصكم من أعمالكم السابقة والمستقبلة شيئًا، وإنما المراد منكم السمع والطاعة لأمره.

حكمة تحويل القبلة

بيَّن الحق سبحانه وتعالى الحكمة فى تحويل القبلة بآية تقتضى قصر الصفة على الموصوف وهى قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة: 143).

قال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه: (أى ما حَوَّلناك عن القبلة التى كنت عليها وهى بيت المقدس؛ إلا لنعلمك ونريك من يتبعك من أهل اليقين الذين صدقوك فيما جئتهم به من عندى، لا يزلزل قلوبهم نسخُ بعض الآيات ببعض، أو تحويلُ وجوههم عند الصلاة عن بيت المقدس إلى الكعبة، لقوة يقينهم بما جئتهم به، ونريك أهل الإيمان الضعيف الذين اتبعوك بألسنتهم لا بقلوبهم، وبعقولهم المكتسبة لا بقلوبهم وعقولهم التى تعقل عن الله، ممن ينقدح الشك فى قلوبهم لأقل حادث يحدث، وهم الذين قدرت في أزلي أنهم ليسوا مؤمنين بالحق، ولكنهم أهل شك وتردد، وبذلك الاختبار والامتحان يطمئن قلبك بمن اتبعك من المؤمنين، وتثق بهم أن يكونوا أنصارًا لك على القيام بمهام الرسالة)([18]).

وهذه الامتحانات والاختبارات مستمرة للمؤمن المقبل على الله؛ حتى يصل إلى الله فيرفعه إلى المقام الأعلى، أو ينزعج فيرتد على عقبيه.

فكان فى تحويل القبلة قبل غزوة بدر عدة فوائد منها:

1- تطهير الجبهة الداخلية فى المدينة من المنافقين والضعفاء بارتدادهم عن الإسلام.

2- كشف حقيقة نوايا اليهود والمشركين الذين وادعهم رسول الله حين دخل المدينة.

3- أهمية الرِّبَاطِ الوثيق بين المقدسات الإسلامية، أى: بين بيت المقدس والكعبة، فالإسراء، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وتحويل القبلة: من الأقصى للحرام.. وأنهما معالم بين عينى كل مسلم.

4- تحديد الهوية والشخصية المستقلة للمسلم.

5- وحدة الأمة، فإذا كانت الأمة لها قبلة واحدة فلا بد أن توحد كلمتها أمام أعدائها.

حكمة استقبال الأشباح لوجهة كونية

انفرد الإمام أبو العزائم رضي الله عنه بكلام نفيس فى كتابه (النجاة فى سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) بكشف حكمة استقبال الأشباح، أى: الأجسام، لوجهة كونية فقال([19]): (معلوم أن أكمل مقام يتحقق فيه المؤمن بمقام العبد حقًّا هو موقف الصلاة، لانكشاف الحضرتين لسر القائم بالصلاة فى الصلاة.. إذ كل عمل من الأعمال إذا انكشفت رموزه لعين العامل المخلص لها يرى أن صفات الربوبية مشهودة له – وإن حرص أن يتحقق بمقام العبدية – إلا فى الصلاة.

فالصائم مثلاً متشبه بعالين، وملاحظ معانى صمدية الصمد بمجاهدته نفسه فى ذات الله بتركه ما لا بد لها منه، فهو وإن كان عبدًا مطيعًا للأمر، لكنه ملاحظ لمعانى صفات الربوبية، وكذلك فى الصدقة والحج، وفى البر والصلة، وفى العاطفة والرحمة والشفقة على الخلق، لا تتميز الحضرتان تمييزًا يجعل العامل عبدًا حقًّا، مشاهدًا للحق مشاهدة يكون فيها محفوظًا من أن يلاحظ اتصافه بصفة من صفات الربوبية؛ إلا فى إقامة الصلاة.

– إذًا فالصلاة تمييز بين الحضرتين، وإشراق نور الأحدية على الحضرة العبدية، وحضرة العبد حق، وإن الحق حق.

– فيواجه الحق العبدِىُّ الحق الرَّبِّيَّ بالنسب الحقيقي؛ الذي هو ذل وخشوع واحتياج وفقر وفاقة، ويتنزل الحق الرَّبِّيُّ فيواجه الحق العبدى بجلال جميل رءوف رحيم، وقريب منعم متفضل، فيكون نورًا على نور.

قِبْلَةُ الْعَارِفِينَ حَالَ الصَّـــــلَاةِ

وَجْهُ مَوْلًى مُّنَزَّهٍ عَـــن جِهَاتِ

وَهُمُو قِبْلَةٌ لَّهُ إِذْ يُصَلِّــــــــــى

بِحَنَّانٍ عَلَيْهِمُـــــــــــــو لِلنَّجَاةِ

فَصَلَاةٌ لَّهُ وَمِنْهُ عَلَيْهِــــــــــــمُ

أَخْرَجَتْهُمْ فَضْلًا مِّنَ الظُّلُمَـــاتِ

وَقَفُوا خَاشِعِينَ ذُلًّا فَصَلُّـــــــوا

وَاجَهُوا الْوَجْهَ لَا مِنَ الْمِـــــرْآةِ

قِبْلَةُ الْعَاشِقِينَ أَيْنَ يُوَلُّــــــــــونَ

وُجُوهَهُمُـــــــــــــــــو فَلِلْمِشْكَاةِ

مِن ظَلَامِ الأَوْهَامِ أَوْ قَيْـــدِ عَقْلٍ

أَخْرَجْتَهُمْ لِلنُّورِ مَجْلَــــى الذَّاتِ

نُورُ وَجْهٍ أَضَاءَ فِى كُــلِّ شَىْءٍ

وَلَهُ الْكُلُّ مَظْهَـــــــــــرُ الآيَاتِ

قِبْلَةُ الْوَاصِلِينَ كَعْبَـــــــةُ رُوحٍ

فَرْدُ ذَاتِ الْعَلِىِّ فَيْــضُ الْهِبَاتِ

قِبْلَةُ السَّالِكِينَ بَيْـــــــــتٌ عَتِيقٌ

مَهْبِطُ النُّورِ مَنْـــزِلُ الرَّحَمَاتِ

وَالْمَعَانِى جَمِيعُهَا إِنْ أَضَاءَتْ

لِمُرَادٍ فَذَاكَ عَيْـــنُ الْحَيَـــاةِ([20])

– ولما كانت تلك المواجهة لا بد أن تحصل لظاهر العبد وباطنه، حتى تصح الوصلة بين ظاهر العبد وباطن العبد، وباطن الحق وظاهر الحق.. فكان ظاهرُ العبد مقامَ التنزيه، وباطنهُ مقامَ التشبيه، وكان لا بد من وجهة معينة لظاهر العبد، ومن إطلاق لباطنه؛ حتى تحصل الطمأنينة لظاهره وباطنه.

– لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يعين وجهة للأشباح يتوجه إليها عند الوقوف بين يديه توجهًا تتحد به القلوب، وتشرق فيه أنوار التوحيد الخالص على كل مسلم توجه، لتكون الوجهة واحدة.. وتلوح أنوار التوحيد على ظاهر العبد وباطنه، فيكون مقيمَ الصلاة وهو فى الصلاة، ذائقَ حلاوة التوحيد ظاهرًا وباطنًا، متجملاً بجمال التفريد والتنزيه سرًّا وعلنًا، حاضرًا بقلبه وقالبه مع ربه سبحانه وتعالى بالانقياد والطاعة للأمر بالتوجه إلى كعبة الأشباح، حضورًا روحانيًّا بالمواجهة التى حصلت له؛ لتجمله بجمال الرتبة العبدية فى حضرة الإطلاق، وهذا سر إقامة الصلاة… يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:

بِبَكَّةَ قَلْبِي بَلْ وَفِي مِصْـرَ جُثْمَانِي

وَفِي بَيْتِكَ الْمَعْمُورِ رَوْحِي وَرَيْحَانِي([21])

وجهة لا جهة

والكعبة المكرمة لم تكن جهة من الجهات الأربع للمصلى، ولكنها رمز لوحدة ملاحظة للمصلى المشاهد، تتجلى له حقائق المعبود الأحد سبحانه فى توجهه ظاهرًا وباطنًا إليه.. فإن سكان البلاد الشرقية للكعبة يوجهون وجوههم إلى الغرب منها، وسكان الغرب يوجهون وجوههم إلى الشرق، وكذلك سكان الشمال والجنوب.. والحاضرون بمكة يصلون حلقًا حول الكعبة.

فالكعبة وجهة لا جهة، ومثال لا حقيقة، ورمز عن وحدة الواحد، وإشارة إلى التوحيد الخالص، والإخلاص فى العمل للأحد الصمد سبحانه، وبيان لملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، وتشبهًا بالرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ ولذلك جعل الله للمسلمين القبلتين ليكون لهم الحظ الأوفر بالتشبه برسل الله والتحقق بعلومهم وعملهم، قال تعالى: )لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ( (البقرة: 285).

أسأل الله تعالى أن يكشف لقلوبنا حقيقة الجمال الرباني، الذى به ننجذب بكليتنا إلى الرضوان الأكبر.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله أجمعين.

=================================================

([1]) ينظر: السيرة الحلبية 2/353.

([2]) ينظر: المرجع السابق.

([3])  ينظر: أسرار القرآن، للإمام أبى العزائم 2/10، ط2. 1414ﻫ – 1993م، دار الكتاب الصوفى – القاهرة.

([4]) ينظر: تفسير التسترى لأبى محمد سهل بن عبد الله التسترى 1/27، عند تفسير قوله تعالى: )أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (البقرة: 5)- ط.1 – دار الكتب العلمية- بيروت – لبنان – 1423ﻫ.

([5]) ينظر: سيرة ابن هشام 1/606، وتاريخ الطبرى 2/415، والبداية والنهاية 5/45، والمواهب اللدنية للقسطلانى 1/343، والسيرة الحلبية 2/352.

([6]) ينظر: السيرة الحلبية 2/353، والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلانى 1/345، والنجاة فى سيرة رسول الله للإمام أبى العزائم ص314.

([7]) ينظر: سيرة ابن كثير 2/374.

([8]) ينظر: السيرة الحلبية 2/354، والنجاة فى سيرة رسول الله للإمام أبى العزائم ص314.

([9]) ينظر: صحيح البخارى 1/89 ح403، وصحيح مسلم 2/66.

([10]) ينظر: صحيح مسلم 2/66.

([11]) ينظر: فتح البارى بشرح صحيح البخارى لابن حجر العسقلانى 1/506 ح 403، ط. دار المعرفة – بيروت.

([12]) ينظر: السيرة الحلبية 2/354.

([13]) ينظر: النجاة فى سيرة رسول الله للإمام أبى العزائم، ص314 – 315.

([14]) ينظر: السيرة الحلبية 2/355.

([15]) ينظر: المواهب اللدنية بالمنح النبوية 1/346.

([16]) ينظر: السيرة الحلبية 2/355.

([17]) ينظر: مسند الإمام أحمد 41/481 ح25029، ط. مؤسسة الرسالة بيروت- لبنان، 1421ﻫ.

([18]) ينظر: أسرار القرآن، للإمام أبى العزائم، ج2 ص7.

([19]) ينظر: النجاة فى سيرة رسول الله، للإمام أبى العزائم، ص306 – 309، بتصرف.

([20]) ينظر: ديوان ضياء القلوب للإمام أبي العزائم، ج1، قصيدة رقم: 111.

([21]) ينظر: ديوان ضياء القلوب للإمام أبي العزائم، ج9، قصيدة رقم: 8937.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (14)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …