أخبار عاجلة

لا (وطن) هناك.. التكفيريون ملة واحدة من صالح سرية إلى البغدادي مرورًا بشكري مصطفى

يشترك التكفيريون وغلاة العنف باسم الدين في سمات واحدة يأتي منها شذوذ الفكر والجهل بقيم وأصول الدين الحق وسيطرة نزعة العنف والدم علي العقل.. إلا أن ( إنكار قيمة الوطن ومعني الوطنية ) يعد في تقديرنا هو القاسم المشترك لدي تلك الجماعات المتطرفة منذ ابتليت الأمة بفرقة الخوارج، مرورًا بتنظيمات التكفير والهجرة، انتهاء بالإخوان والقاعدة وداعش ومن صار على نهجهم الشاذ في رفض تلك العروة الوثقي بين قيمة (الوطن) ودين (الإسلام). ولعل في تأمل نماذج من تلك الجماعات وطرفًا من أفكارها الدخيلة علي الدين.. ما يؤكد ما ذهبنا إليه….

د. رفعت سيد أحمد

 

* بداية يحدثنا التاريخ الحديث – نسبيًّا – بأن حقبة السبعينيات في مصر (قلب العروبة)، كانت حقبة قلقة ومليئة بالتحولات الدرامية على الصعيد السياسي، الأمر الذي انعكس على صعيد الفكر أيضًا، ولقد كانت الحركات الإسلامية المتطرفة، أكثر تأثرًا بهذه التحولات، وكان فكرها أكثر تعبيرًا عنها، ولقد جاءت مساهماتها النظرية على شكل وثائق سرية ومخطوطات تتداول بخط اليد وخطب وأحاديث دينية في المساجد الأهلية، وسنقدم هنا نماذج لها:

أولًا: صالح سرية

يرى د. صالح سرية (وهو فلسطيني المولد حيث ولد عام 1936م وأعدم عام 1976م) وهو قائد تنظيم الفنية العسكرية (1974م) – الذي كان أول تنظيم سياسي إسلامي يهدف إلى قلب نظام الحكم في السبعينيات – في وثيقته الوحيدة المتخلفة عنه (وثيقة رسالة الإيمان) – والتي قمنا بنشرها وتوثيقها في كتابنا: النبي المسلح – 1991م – دار رياض الريس للنشر – لندن) أن الدولة لا تكون إسلامية إذا كانت تنص في دساتيرها على أنها دولة (وطنية)، إن هذا يعني وجود تناقض عنده بين الانتماء إلى الوطن بالمعنى المباشر.

وعلى ذات المعنى، يتجه صالح سرية إلى رفض فكرة (الوطنية) و(القومية) بل والاشتراكية، ويرى أنها جميعًا مفاهيم تخالف أصول الإسلام، وعالميته، ولقد قام في وثيقته بشرح مفصل لهذا المعنى عندما يرى – ورأيه علميًّا وتاريخيًّا خطأ طبعًا – أن:

“القومية والوطنية نشأت في المشرق العربي معادية للإسلام، ففي النصف الثاني من القرن الماضي كانت الدولة العثمانية تمثل في نظر الناس والعالم (الدولة الإسلامية)، وقد تعاون الاستعمار الغربي مع التبشير الصليبي (الماسونية) على تحطيم الدولة العثمانية، فرأوا أن أحسن وسيلة هي تفتيت وحدة هذه الدولة، وأوعزوا إلى الماسونية، تبني الحركة الطورانية (القومية التركية).

وعربيًّا – من وجهة نظر صالح سرية الغريبة والشاذة – عقد أول مؤتمر للأحزاب القومية سنة 1913م في باريس وتبنى الإستعمار الإنجليزي والفرنسي الحركات  القومية (!!) وصرف عليها من الأموال “.

وحين ركب جمال عبدالناصر – كما يقول سرية – موجة القومية العربية بتأثير القوميين في المشرق العربي بعد أن أشبعوا غروره بالزعامة سار على الخط العلماني نفسه، فحارب الحركة الإسلامية حربًا لا هوادة فيها، وإن لم يكن هو في حد ذاته قد وصلت عنده القومية العربية إلى حد العقيدة كما عند القوميين المشارقة؛ لأنه كان يتخذها مطية لأطماعه في حين أن أولئك يتخذونها عقيدة بديلة لعقيدة الإسلام.

هذه الرؤية الشاملة والرافضة لصالح سرية تقابل؛ حتى من الفلسطينيين أنفسهم ممن هم على النهج الإسلامي – بنقد ورفض، وذلك لأنها تغفل احتمالات أن تقوم الوطنية على أساس إسلامي، وكذلك القومية وهنا نشير إلى إسهامات الشهيد القائد الدكتور فتحي الشقاقي مؤسس جماعة الجهاد الفلسطينية، والذي وفق في كتاباته وبعمق وصدق بين الوطنية والقومية والإسلام.

 

*والطريف هنا أن صالح سرية ذاته ناقض نفسه، لاحقًا إذ عندما نقارب ما قاله في “رسالة الإيمان” بالبيان السياسي الذي كان ينوي إذاعته على الجماهير في مصر بعد نجاح عمليته العسكرية بالاستيلاء على السلطة، والذي كان أهم بنوده الدعوة إلى الوطنية والانتماء العربي، بل وخلا البيان ولأول مرة في تاريخ الحركات الإسلامية من مقولة (عودة الخلافة) أي من مفهوم الجامعة الإسلامية الأشمل، وفي تقديرنا أن هذا الأمر يعكس حالة من الخلل البنائي لدي قادة تلك التيارات الداعشية ليس في سبعينيات القرن الماضي فقط بل منذ أطلت على الأمة فرقة الخوارج في صدر الإسلام وما توالد منها؛ حتى يومنا هذا (2022م).

ثانيًا: شكري أحمد مصطفى

شكري أحمد مصطفى (هو مؤسس جماعة المسلمين) التي سميت صحفيًّا وأمنيًّا بالتكفير والهجرة، وأسست عام 1969م، وأعدم شكري عام 1977م بعد قتله للشيخ الذهبي. لقد قلب شكري مفهوم (الوطنية) و(الإسلامية) وجميع مفاهيم الانتماء، رأسًا على عقب (فالانتماء لديه فقط لجماعته التكفير والهجرة؛ لأنها جماعة المسلمين الوحيدة الصحيحة) ويري أن (جماعته ينبغي أن تعيش بمعزل عن باقي المجتمعات القائمة؛ لأنها في مجملها كافرة) وهو يرى أن مفاهيم مثل (الوطنية) هي مجرد (شعارات ماسونية وضعت في ثياب الإسلام) وأنها هدفت إلى أن يكون للكافر بالله عزة في أرض الله، ونحن نرفض ما ينادي به أولئك الذين يبيعون الإسلام بالبخس.

والبديل الإسلامي الذي يُبنى على أساسه الولاء عند أمير جماعة المسلمين – شكري مصطفى – يعني الدولة الإسلامية، والدولة الإسلامية لن تُبنى إلا بوجود جماعة المسلمين، وهو يرى أن هذه الجماعة لن توجد إلا بالاعتزال والهجرة من دار الكفر ومبايعة الأمير وإطلاق يده في جميع أمور الجماعة، صغر شأنها أم كبر (انظر: نص هذه الرؤية في وثيقة (الخلافة) لشكري أحمد مصطفى في د. رفعت سيد احمد – النبي المسلح – جزء ثان – مصدر سابق ص ص: 115 –160).

* وكان منطقيًّا أن تدفع هذه الرؤية المنقطعة عن المجتمع إلى رفض كل منطق إسلامي، أو كل بُعدٍ من أبعاد مفهوم الوطنية ذات الأفق الإسلامي، وبخاصة قضية الصراع مع إسرائيل، وهنا يفاجئنا شكري برؤية طريفة – ولكنها خطيرة في الوقت ذاته؛ لأن (داعش تبنتها لاحقًا في زمن ما سمي بثورات الربيع العربي) – عندما يرفض مقاتلة اليهود اليوم؛ لأن القرآن نص على أن موعد قتالهم مرتهن بوجودهم في (قرى محصنة) وليس هكذا في صحارى وهضاب، ولنتأمل مقولته وتبريره، الغريب لها: (إن الدلالات واضحة.. وإنه لا حاجة إلى تعقيب ولكن دعوني ألفتكم إلى معنى آخر يقول الله تعالى عن اليهود: )لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ( (الحشر: 14) واليهود الآن لا يقاتلونكم كذلك، بل هم يقاتلونكم – جميعًا من فيافي سيناء وهضبة الجولان وغرب نهر الأردن وجنوب لبنان وعلى خط السويس ومن مجاهل إفريقيا، ومن كل مكان وليس في قرى محصنة ولا من وراء جدر.. فإما أن تكونوا أنتم المؤمنين المخاطبين بقوله تعالى: (يقاتلونكم) “ويكون الذين يقاتلونكم هم اليهود فعلًا”، فيكون الله هو الذي أخلف وعده وغرر جنده – تعالى الله – وإما أن تكونوا أنتم المؤمنين المخاطبين غير أن الذين يقاتلونكم ليسوا هم اليهود، وذلك خلاف ما تشهد به حواسكم وأعينكم وجيلكم المنكوب.. وإما أن يكون المخاطبون ليسوا أنتم، لا أنتم منهم ولا هم منكم وهو لعمري آخر الاحتمالات.. فما قولكم؟ الحق أقول لكم:

إن المسلمين لم يعرفوا ولن يعرفوا قتالًا إلا بالصف والسيف والخيل والنبل، وأنه لم تكن هناك حرب في سبيل الله منذ أن تودع هذا العتاد السالف الذكر، وأنه أيضًا لن تكون.. وإن الذين يدعون أنهم يقاتلون اليهود اليوم ليسوا هم المسلمين.. إنا نعلنها صريحة مدوية: (المعارك الإسلامية بريئة منهم وهم براء منها) (وثيقة الخلافة: مصدر سابق، ص: 131).

** إنه قول وتأويل غريب حقًّا في مجمله وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن (جماعة المسلمين) تمثل بأفكار قائدها – شكري مصطفى – وبفهمه للإسلام ليس فقط انقطاعًا حادًّا مع المجتمع الذي قامت فيه أو الحركات الإسلامية التي واكبتها بل – وهذا هو الأهم – انقطاع مع التاريخ ومع الإسلام ذاته، فكانت حركة في اتجاه مضاد لحركة التاريخ، لذا كان من المنطقي انطفاء جذوتها وانتقالها إلى تنظيمات أخرى أكثر عنفًا وتستمد من أفكاره الشاذة منهج حياة وعمل ولعل قاعدة إسامة بن لادن، وداعش أبو بكر البغدادي، وجماعات الإرهاب المنتشرة اليوم في سوريا والعراق ومصر وليبيا وبلاد الشمال الإفريقي – خير تطبيق لعقيدة شكري مصطفى في رفض قيمة (الوطن)، وفي لصق الإرهاب بالدين، مما أساء إلى هذا الدين العظيم أبلغ إساءة لا زلنا حتى اليوم (2023م) ندفع ثمنها.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (15)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …