اعلم أن بني إسرائيل لما دخلوا التيه، ورُزقوا المنّ والسلوى، واختار الله لهم ذلك رزقًا رزقهم إياه يبرز من عين المنّة؛ من غير تعب منهم ولا نصب، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود العادة والغيبة عن شهود تدبير الله؛ إلى طلب ما كانوا يعتادونه…
فضيلة الشيخ قنديل عبدالهادي
مما يقال لمن لم يقنع بالقسمة الأزلية
عن الشيخ العقاد في قوله تعالى: )ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ( (البقرة: 61) يقول: والمعصية هي الخروج عن حدود الله، وقد تجر المعاصي إلى الكفر، وقد حذرنا العارفون بالله من صغار المعاصي؛ لأنها تسبب قسوة القلب والغفلة عن الرب، وتسمم الضمير فيمرض، وتتولد فيه أمراض كثيرة؛ حتى يعظم الخطر فلا يفيد العلاج، فاحترس من المعاصي وتب إلى الله سريعًا؛ حتى تعود لك الصحة الرُّوحية.
وفي إشارة لابن عجيبة في سياق تفسيره لتلك الآية: كل مَن لم يقنع بالقسمة الأزلية؛ ولم يقم حيث أقامته القدرة الإلهية، بل جنح إلى حظوظه وهواه؛ وحرص على تحصيل أغراضه ومناه؛ قيل له:
أتستبدل تدبيرك – الذي هو أدنى – بتدبير الحق – الذي هو خير -؟.
أتترك تدبير الحكيم العليم الرءوف الرحيم؛ إلى تدبير عقلك الضعيف الجاهل الخسيس اللئيم؟.
فعسى أن تدبر شيئًا يكون لك؛ فإذا هو عليك، وعسى أن تأتيك المسار؛ من حيث تعتقد المضار، وعسى أن تأتيك المضار؛ من حيث ترتجي المسار، ولله درّ القائل:
وكَم رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لي في انْصِرَافِهِ
فَلَا زلْتَ لي مِني أبَرَّ وأَرْحَمـــــــــــا
عَزَمْــــتُ عَلَى ألَّا أُحِسَّ بِـــخَاطِـــــرٍ
عَلى القلْبِ إلَّا كُنْتَ أَنْتَ المُــــــــقَدَّما
وألَّا تَرَانِي عِنْــدَ مَـــا قَــــدْ نَهيْتَنــي؛
لِكَونَك في قَلْبِي كَبيـــــرًا مُــــــعَظَّما
يا مَن لم يقنع بتدبير مولاه، ومال إلى نيل حظه وهواه؛ اهبط إلى أرض الحظوظ والشهوات؛ تجد فيها ما ألفته نفسك من عوائد السيئات.
يا مَن أخلدت نفسه إلى الهوى ومتابعة الشيطان؛ كيف تستبدل العز الدائم بالذل والهوان؟! وأنشدوا:
لاَ تَتْبعِ النفسَ في هَواهَا
إنَّ اتِّبـــــاعَ الهَوَا هَوَانُ
قال في التنوير: فائدة: اعلم أن بني إسرائيل لما دخلوا التيه، ورُزقوا المنّ والسلوى، واختار الله لهم ذلك رزقًا رزقهم إياه يبرز من عين المنّة؛ من غير تعب منهم ولا نصب، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود العادة والغيبة عن شهود تدبير الله؛ إلى طلب ما كانوا يعتادونه، فقالوا: )فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ…( الآية، )قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ( (البقرة: 61).
وذلك؛ لأنهم تركوا ما اختار الله لهم، مائلين لما اختاروا لأنفسهم، فقيل لهم عن طريق التوبيخ: )أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ(؟.
فظاهر التفسير: أتستبدلون الفوم والعدس والبصل بالمنّ والسلوى؟، وليس النوعان سواء في اللذة ولا في سقوط المشقة وسر الاعتبار.
أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد الله تعالى لكم؟.
(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى) وهو ما أردتموه، (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)، وهو ما أراده الله لكم؟.
(اهْبِطُواْ مِصْرًا) فإن ما اشتهيتموه لا يليق إلا أن يكون في الأمصار.
وفي سر الخطاب: اهبطوا عن سماء التفويض وحسن التدبير منا لكم، إلى أرض التدبير والاختيار منكم لأنفسكم، موصوفين بالذل والمسكنة؛ لاختياركم مع اختيار الله، وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله.
بنو إسرائيل أهبطوا قَدْرًا ومرتبة
يبيِّن الإمام أبو العزائم في معنى قوله تعالى: )اهْبِطُوا مِصْرًا( (البقرة: 61): الذي أفهمه أن الهبوط ليس مكانيًّا، ولكنه هبوط قدر ورتبة، كما قال لآدم وحواء: )اهْبِطُا مِنْهَا( (طه: 123) أي: انزلا عن قدركما؛ وإن كان الهبوط المكانيّ تحقق.
وفي قوله تعالى: )اهْبِطُوا مِصْرًا( إشارة إلى أنه I سلب منهم الصبر الذي يقوي النفس على تحمل أعباء القيام بأوامر الله تعالى.
وفيه دليل على أنهم استحقوا من الله أن تُضرب عليهم الذلة والمسكنة؛ لأن الأرض التي كانوا فيها متعهم الله فيها بما هو فوق ملك الأرض لكل واحد منهم…
فليس عليهم آمر إلا الله تعالى ثم كليمه…
وليس ثم منافس ولا منازع لحصول المساواة المطلقة بينهم، لأن طعامهم المن والسلوى وشرابهم الماء الذي تفجر من الحجر، وهي عيشة كعيشة أهل الجنة…
ولكن… أبت النفوس اللقسة إلا الخروج من الحق إلى الباطل.
– يقال: لَقِسَت نفسُه إِلى الشيء إِذا نازَعَتْه إِليه وحَرَصَت عليه -.
وفى قوله: (مِصْرًا) دليل على أن الأمصار – وإن كانت جامعة للخيرات وحصن الأمن لأهلها – إلا أنها تضرب على كل فرد من أهلها الذلة والمسكنة: أما الذلة فلأن الأمصار لا بد أن تكون مسكونة من هيئتين حاكمة ومحكومة، والحاكم مهما بلغ من المقامات العالية لا يكون معصومًا فيحكم بالعدل والقسط؛ بل تتفاضل الناس أمامه، فكيف به إذا كان كافرًا أو فاسقًا؟!، ما لم يكن الحاكم رسولًا؛ أو صديقًا يجتهد أن يحافظ على آثار الرسل عليهم السلام.
الله ينظر إلى القلوب فإن رآها مجتمعة على الخير أعطاها
عند الإمام أبي العزائم في تفسير قوله تعالى: )فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ(؛ في تلك الجملة إشارة إلى التهديد؛ لأنه سبحانه جعل لهم ما سألوه فقط، والقوم ما سألوا إلا البقل والفوم والقثاء والعدس والبصل، ولو أراد سبحانه أن يوسع لهم الفضل لقال اهبطوا مصرًا فأعطيكم الخير مثلًا.
وإجابة الله دعاء كليمه A بقوله: )اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ( ليست دليلًا على رضائه عنهم، ولكنها حجة على أن يجيب الداعي مطلقًا فضلًا منه وكرمًا؛ ولو كان عاصيًا ما دام الدعاء غير معصية في نفسه.
قيل: إن بعض الصحف نشرت أن الهندوس سيجتمعون ويدعون لغاندي الذي كان مريضًا ليُشفى، فذكر بعضهم ذلك الخبر للإمام أبي العزائم، فقال: يجتمعون ويدعون وقد يشفيه الله تعالى، فإن الله ينظر إلى القلوب فإن رآها مجتمعة على الخير أعطاها.
من معاني الذلة والمسكنة
يقول الله تعالى: )وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ( (البقرة: 61)؛ من معاني (الذِّلَّة): الجزية التي قضت بها الشريعة الإسلامية، وأما المسكنة: فالفقر لمخالفة الإسلام.
والمسكين هو: الذي قصم فقارة ظهره الاحتياج فأسكنه إلى الأرض فصار مسكينًا، وهذا جزاء من يخالف الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وهذا خطاب لمعاصري رسول الله J أيضًا؛ لأنهم علموا أن سلفهم خالف سيدنا موسى فانتقم الله منهم، وأنذرهم مخالفة رسول الله فيصيبهم هذا الشر.
وصدق الله العظيم، فإن اليهود منذ الكليم A وهم يحاربون الرسل ويخالفون أوامر الله تعالى، ولو تصفحنا بطون التاريخ لعلمنا من سيرهم أنهم جنود إبليس.
ونحن الآن نراهم في كل واد لا يتركون الفساد والضلال، ولا يتركون مسلمًا ولا نصرانيًّا إلا سعوا في أذيته؛ لأن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة؛ حتى يمحقهم محق قوم عاد وثمود.
ومما بينه الشيخ العقاد في معنى قوله تعالى: )وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ( (البقرة: 61)، أن هذه ثلاث بلايا جسيمة ابتلاهم الله بها عدلًا منه، الأولى: الذل؛ وهو أنهم لا رابطة تجمعهم ولا حكومة تحميهم، بل هم متفرقون تحت حماية الدول أذلاء لقوانينها وتعاليمها، فتراهم أذلاء في أنفسهم لا يفارقهم الذل؛ لأنه حكم أحكم الحاكمين، فمهما كثرت استعداداتهم فالله تعالى منفذ حكمه الأزلي فيهم.
وكل من ساعدهم على نوال العز لهم والسلطان؛ قهره الله وخذله؛ مهما كثرت جيوشه ومعداته.
وابتلاهم الله بالمسكنة وهي الافتقار والمهانة، فإن اليهودي مهما كثرت أمواله فهو حريص على حفظها وتنميتها؛ والفقر ملك قلبه وصار شبحًا مخيفًا بين عينيه؛ وهذه هي المسكنة الحقيقية…
والمصيبة الكبرى التي أصابتهم في الصميم هي قوله تعالى: )وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ(، والغضب هو الطرد عن رحمة الله والبعد عن دائرة عطفه…