أخبار عاجلة

العلاقة بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية (8)

بيَّنَّا اللقاء الماضي أن تعليم الله آدم أسماء الأشياء بمثابة غرس تصوراتها وأفكارها في عقله، وقد ورث بنوه عنه هذه الأفكار والتصورات التي هي أصل العلم ومصدره، فإذا ما تعلم الإنسان شيئًا من الأشياء المحسوسة، أو اكتشف شيئًا، أو صنع شيئًا، أو تخيَّل شيئًا، فهذا يعني أنه استخرج نموذج هذا الشيء أو صورته من عقله.. وفي هذا المقال نواصل الحديث..

أ.د. فاروق الدسوقي

بقية: الاستقلال والتمايز

بين العلوم الدينية والعلوم التجريبية في مصدر المعرفة

لو كان عقل الإنسان صفحة بيضاء، كما يقول الماديون، ولو كانت المادة سابقة على الفكر كما يقول الماركسيون، ولو كانت عملية المعرفة هي تلقي صور الأشياء من الخارج وطبعها في الذهن فقط، لكان الإنسان يعيش حاليًا على وجه الأرض كما تعيش الأحياء الأخرى، ولما اكتشف الإنسان أو اخترع أو صنع شيئًا، ولما كان هناك تقدم علمي على الإطلاق، ولظل الإنسان على حالته الأولى كالحيوان سواء بسواء.

لقد خلق الله U الإنسان وخصه بعلم الأسماء، وليس بالعقل كما يزعم البعض؛ لأن الحيوان عاقل وإنما يتميز الإنسان عن سائر الأحياء في الأرض بعلم الأسماء، أي بهذه الأفكار والتصورات الذهنية المغروسة في عقله، فهي طاقة عقلية ذهنية دافعة له إلى اختراق الواقع الذي يعيش فيه، والنفاذ منه إلى حالة وجودية أعلى معيشيًّا وأرقى علميًّا من التي يولد الإنسان عليها، وسر ذلك كله مكنون في علم الأسماء المخزون في عقله.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن الأبحاث الفسيولوجية الخاصة بالمخ والأعصاب عند الإنسان قد أثبتت أن خلايا مخ الإنسان لا تفنى ولا تتجدد كما يحدث لخلايا الأعصاب الأخرى، وأن الإنسان يستغل ويشغل من خلايا مخه بقدر علمه وذكائه وتفكيره، وأن البشرية حتى الآن وبما وصلت إليه من علوم متقدمة نسبيًّا استغلت واستخدمت من خلايا المخ الإنساني ما لا يزيد عن سبع المخ الإنساني كله؛ وهذا يعني أن:

1- التقدم العلمي التجريبي والتكنولوجي عند الإنسان قابل للزيادة والنمو إلى ما يعادل سبعة أضعاف ما وصلت إليه البشرية حتى الآن.

2- إن مجال تطور البشرية وتقدمها علميًّا وتقنيًّا وعمرانيًّا محدود وليس إلى ما لا نهاية أو بلا حدود كما يزعم الملاحدة؛ لأن المخ البشري محدود، والتصورات محدودة وعلم الأسماء محدود. وإن القرآن الكريم بإخباره أن الله علَّم آدم الأسماء كلها يؤيد نتائج علم جراحة المخ والأعصاب حول وظيفة المخ البشري ولا يختلف معه.

3- إن وصول الإنسان إلى مرحلة استنفاذ علم الأسماء واكتشافه لكل ما يحتوي عليه ذهنه من تصورات وأفكار وتطبيقاتها في مجالات الحياة – يعني نفاد أجل البشرية وقيام الساعة، وعلم ذلك عند الله وحده، فلا شك أن وصول الإنسان إلى هذه المرحلة سيضاعف استطاعته بالتوسع التقني والصناعي إلى مدى بعيد لا يعلمه إلا الله U، وبما يجعلنا نحن أهل الزمان عاجزين ومتخلفين علميًّا وتكنولوجيًّا بالنسبة لهم، فإذا فقد الإنسان في مثل هذه الحالة عبوديته لله – كما هو حال الإنسان الغربي الآن – فإنه سيظن في نفسه القدرة على كل شيء وكل فعل في الأرض، قال تعالى: )إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(  (يونس: 24).

4- تدل نتائج علم جراحة المخ والأعصاب أيضًا على أن الأفكار والتصورات نابعة من الإنسان نفسه وليس من المادة بدليل عدم تحدد خلايا المخ، وبدليل التناسب المطرد بين علم الإنسان وبين استغلاله لهذه الخلايا، ومن ثم يكون الفكر سابق على المادة وليس العكس.

5- تدل هذه النتائج أيضًا على نتيجة مهمة أثبتناها سابقًا: وهي أن الإنسان لا يمكنه أن يتعلم من نفسه شيئًا وأن كل ما يتعلمه إنما هو بعطاء من الله U وإن اختلفت كيفية العطاء وظروفه وتوقيته ومنهجه من نوع إلى نوع.

فمعرفة الإنسان لربه U عطاء من الله I، ومعرفة الإنسان للشريعة والتكليف عطاء من الله U، وتلك هي العلوم الدينية.

ومعرفة الإنسان للعالم المشهود المتمثلة في العلوم التجريبية عطاء منه أيضًا.

لكن معرفة الإنسان لربه كانت في عالم الذَّرِّ بالعهد والميثاق والإشهاد.

ومعرفة الإنسان بالشريعة والعقيدة مصدرها الوحي والرسالات السماوية.

أما معرفة العالم المشهود فقد تلقاها الإنسان من ربه عندما علم آدم الأسماء، ومن ثم جعل الله U للإنسان دورًا عليه أن ينجزه لكي تنبعث هذه التصورات والعلوم والمعارف من عقله، وهو ما يتمثل في الأخذ بالأسباب والمناهج الصحيحة في دراسة أشياء العالم المشهود.

فلا يجوز للإنسان أن يظن أن هذا الدور الذي يساهم به في استخراج المعلومات من عقله هو وحده الذي يمكنه من هذا العلم؛ لأن هذا العلم عطاء سابق من الله U، ويقتصر دور الإنسان فيه على استخراج ما سبق أن أعطاه الله U له.

ومثل العلوم الدينية والعلوم التجريبية بالنسبة للفاعلية الإنسانية ولهدف الإنسان في الحياة، كمثل الماء بالنسبة لاستمرار حياة الإنسان.

فالعلوم الدينية – من حيث المنبع والمصدر – كالغيث ينزله الله من السماء فيتلقاه الإنسان أنهارًا، وعليه أن يحافظ عليه ويحسن استعماله لينتفع به، فإذا ضيعه أو بدده أو أفسده فهذا يعني تضييع الشريعة وتغيير الوحي وتبديده، وهو الكفر، ومن ثم يظهر الفساد في البر والبحر، ويهلك الإنسان كإنسان وإن بقي موجودًا كمجرد كائن حي. فكما أن تلويث الماء وإفساده يؤدي إلى موت الناس، كذلك يؤدي ضياع الوحي وتبديده أو تغييره إلى موت الإنسانية وضياعها بالكفر.

ومثل العلوم التجريبية – من حيث المنبع والمصدر – كالمياه الجوفية هي في الأصل من خلق الله U وهو ينزلها وهو الذي أسكنها باطن الأرض، ربما منذ أجيال بعيدة، فهي كالغيث من حيث كونها رزق الله، ولكن الحال يختلف هنا بين الرزقين، فالمياه الجوفية لا ينتفع بها الإنسان إلا بجهد شاق، يحفر البئر ويدلي بالدلو، أي أن الله U جعل للإنسان، بالنسبة لهذه المعرفة، دورًا أكثر من مجرد التلقي والحفظ، كما هو الحال في العلوم الدينية.

وهذا الدور يتمثل في محاولة استخراج الأفكار والتصورات من ذهنه عندما يضع العالم أو الباحث الفروض التي يقترحها، فليس هو هنا خالقًا أو موجدًا أو مستخلصًا لها من الأشياء وإنما هو مستخلص لها من ذهنه كما يفعل مستخرج الماء من البئر.

فاستخلاص القوانين والنواميس وخصائص الأشياء والأحياء يكون بفرض الفروض، ثم بالتأكد من صحتها بالتجربة، لكن الفرض نابع أصلًا من ذهن الإنسان.

فالعلم عطاء ورزق من الله U للإنسان سواء كان دينيًّا أم تجريبيًّا، ومع ذلك فللعلوم الدينية مصدرها الخاص وللعلوم التجريبية مصدرها الخاص.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (20)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …