بيَّنَّا اللقاء الماضي أن العلوم الدينية والعلوم التجريبية ليستا متنازعتين، حيث كل منهما في الأصل علم إنساني، فهما نوعان ينتميان إلى جنس واحد هو العلم. والهدف لكل منهما هو إدراك الحقيقة سواء كانت حقيقة جزئية أو حقيقة الكون أو الوجود.. وفي هذا المقال نواصل الحديث فنقول:
أ.د. فاروق الدسوقي
العلوم الدينية والعلوم التجريبية
يعمد بعض الباحثين والكتاب من المستغربين والعلمانيين إلى تسمية العلوم الدينية بالدين، ويتعمدون قصر اسم “العلم” على العلوم التجريبية؛ حتى كاد الأمر أن يكون مصطلحًا، فعندما يقولون: “العلم”، يصبح من المعروف عندهم أن المقصود به العلم التجريبي.
وهؤلاء المستغربون ينادون العرب ويدعونهم إلى ضرورة طبع العقول العربية بالأسلوب العلمي التجريبي، والأخذ بهذا الأسلوب في شتى مناحي الحياة، وتربية أبنائنا على الطريقة العلمية في التفكير للتخلص من الطريقة الدينية الغيبية في التفكير. هذا إذا أراد العرب – في زعمهم – أن يكون لهم وجود تحت الشمس في القرن القادم([1]).
وهم في معرض دعوتهم هذه – والتي يسميها بعضهم دعوة إلى تجديد الفكر العربي وتطويره والعمل للارتقاء به – ينادون بضرورة فرز التراث العربي بقصد الأخذ والترك، ومقياس الأخذ والترك هو ما ينفع وما لا ينفع، ومقياس النفع والضر عندهم بالعقل والعلم التجريبي وليس بالدين والوحي([2]).
وهؤلاء المستغربون في عالمنا الإسلامي يتجاهلون أن في هذا التراث معجزة القرآن والسنة، الذيْن ليس فيهما إلا النفع والهدى للناس. وإن هذا الجزء من تراثنا – نحن المسلمين – غير قابل للاختيار أو للأخذ والترك منه كيف نشاء، وإلا لما أصبحنا مسلمين، ولكن هؤلاء المستغربين من الخبث بحيث إنهم لا يسمون هذا التراث إسلاميًّا؛ بل يسمونه عربيًّا، ولا يدعون إلى تجديد الفكر الإسلامي، وإنما يدعون إلى تجديد الفكر العربي؛ لأن تجديد الفكر الإسلامي يقتضي المحافظة على الالتزام بالكتاب والسنة؛ حتى في عملية التجديد؛ حتى يظل إسلاميًّا، أما تجديد الفكر العربي فهو يتيح له إسقاط الكتاب والسنة من التراث وتركهما بحجة الأخذ بالأسلوب العلمي التجريبي في التفكير، كما فعل الغرب الحديث في زعمهم.
فهذه التسمية: “تجديد الفكر العربي” مقصودة؛ لأنها تتيح لهم اعتبار القرآن والسنة والعلوم الإسلامية القائمة عليهما من التراث، الذي يجوز أخذ ما ينفع منه وترك ما لا ينفع -حسب زعمهم الباطل – وإلا فنحن – كمسلمين – نؤمن أن الوحي كله قرآنًا وسنة نفع وخير وضروري للبشرية؛ حتى قيام الساعة.
ويكمن هذا الخطأ القاتل الذي وقع فيه المستغربون في خلطهم بين نوعي العلم كنتيجة حتمية لاعتقادهم بالوهم الكبير الذي يقول بتعارض العلوم الدينية مع العلوم التجريبية وتنازعهما، ومن ثم ينبني – في اعتقادهم – على هذا الوهم ضرورة التخلص من المعرفة الدينية التي هي سبب التخلف الحضاري والالتزام التام للأسلوب العلمي والمنهج العلمي؛ حتى يرقى الفكر العربي ويتقدم الإنسان العربي حضاريًّا.
والذي نود أن نقوله الآن ونؤكده: هو أن المعرفة الدينية علم بأدق وأوسع ما تعنيه كلمة العلم، فالدين ليس كلمة تقال في مقابل العلم، والعلم ليس شيئًا في مواجهة الدين، بل الدين – باعتباره وحيًا نازلًا من عند الله U – علمًا يقينًا يقوم على أقوى قواعد وأصول اليقين التي يمكن أن يصل إليها إدراك الإنسان على الأرض، وهو لا يقل في محك اليقين ومعياره أصالة وقوة عن العلوم التجريبية، إن لم يزد عليها في ذلك([3]).
وإذا كان العلم هو المعرفة الإنسانية القائمة على الدليل المورث لليقين، فإن العلوم الدينية الإسلامية تقوم على هذا الأساس، ومن ثم فلسنا مخالفين للحقيقة أو متحيزين للدين عندما نسميها العلوم الدينية.
وبحديثنا التالي – في القادم من المقالات – عن استقلال نوعي العلم: الديني والتجريبي، من حيث: الموضوع، والمصدر، والمنهج، والفائدة، والهدف، ومعيار اليقين؛ سيثبت ويتضح لنا صحة ما نقول، وخطأ الوهم الكبير الذي يدعو إليه المستغربون وهو ضرورة التخلص من التفكير الديني، والاقتصار على الأسلوب العلمي التجريبي كطريق ومبدأ للنهضة العربية.
======================
([1]) راجع: التفكير العلمي للدكتور فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ربيع أول وربيع آخر سنة 1398هـ.
([2]) راجع: تجديد الفكر العربي للدكتور زكي نجيب محمود، وهو كتاب يشهد على انتساب كاتبه قلبًا وقالبًا للحضارة الغربية المعاصرة، رغم إعلانه في صدر الكتاب غير ذلك.