من هو هذا القطب المجاهد الذي وصفه سلطان العلماء العز بن عبد السلام في زمن المماليك بأنه (يتكلم بكلام قريب العهد من الله)؟.
الأستاذ صلاح البيلي
شهادة سلطان العلماء
العز بن عبد السلام
قال الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري 0 في كتابه الشهير (لطائف المنن في مناقب الشيخين أبي العباس المرسي وأبي الحسن): (أخبرني الشيخ العارف مكين الدين الأسمر 0 قال: حضرت في المنصورة في خيمة فيها الشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام، والشيخ مجد الدين علي بن وهب القشيري المدرس، والشيخ محيي الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي، رضي الله عنهم، ورسالة القشيري تقرأ عليهم، وهم يتكلمون والشيخ أبو الحسن صامت إلى أن فرغ كلامهم، فقالوا: يا سيدي نريد أن نسمع منك، فقال: أنتم سادات الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم فقالوا: لا بد أن نسمع منك، قال: فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة، فقام الشيخ عز الدين وخرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه، وقال: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله).
ومع ما أنعم الله عليه من علوم وإلهام منه، كان يقول: (من لم يزدد بعلمه وعمله افتقارًا إلى ربه، وتواضعًا لخلقه، فهو هالك). وقال أيضًا: (لا تركن إلى علم ولا مدد وكن بالله، واحذر أن تنشر علمك ليصدقك الناس، وانشر علمك ليصدقك الله تعالى).
ومن دعائه 0: (اللهم إني أعوذ بك من خوف الخلق وهمِّ الرزق، واقرب مني بقدرتك قربًا تمحق به عني كل حجاب).
فمن هو هذا القطب المجاهد الذي وصفه سلطان العلماء العز بن عبد السلام في زمن المماليك بأنه (يتكلم بكلام قريب العهد من الله)؟..
نسبه الشريف
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن حاتم بن قصي بن يوسف ابن يوشع بن ورد بن بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن مولانا الإمام الحسن بن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
روى نسبه هكذا الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري في كتابه (لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن)، وولد في قرية (غمارة) قرب مدينة (سبته) المغربية سنة 593 هجرية، حفظ القرآن صغيرًا، ثم ارتحل صبيًّا إلى تونس فتلقى العلم هناك وتفقه على مذهب الإمام مالك، وانتشر صيته في الأرجاء، فكان الشيوخ يقبلون عليه متتلمذين، ويتوق بعضهم لمناظرته تأكدًا من مكانته العلمية، فيجلس إليه، وبعد قليل يشعر المتناظر أنه أمام بحر مغرق، ولذلك قال الشيخ أحمد بن عطاء الله السكندري: (إنه لم يدخل في طريق القوم؛ حتى كان يعد للمناظرة في العلوم الظاهرة). أي علوم الشريعة.
سلوكه الطريق
ويقول العلامة أحمد بن محمد بن عباد في كتابه (المفاخر العلية في المآثر الشاذلية) أن أبا الحسن الشاذلي قال: (لما دخلت تونس في بتداء أمري قصدت بها جملة من المشايخ، وكان عندي شيء أحب أن أطلع عليه من يبين لي فيه خيرًا، فما فيهم من شرح لي حالًا؛ حتى دخلت على الشيخ أبي سعيد الباجي رحمه الله أخبرني بحالي قبل أن أبديه وتكلم على سري، فعلمت أنه ولي الله فلازمته وانتفعت به كثيرًا).
وهكذا سلك أول الطريق، وساح في البلاد وحج إلى بيت الله الحرام مرارًا، وكان يسأل عن الشيخ القطب أينما ذهب، وسافر للعراق مرقد آل البيت والعارفين وبرزخ الأولياء عسى أن يلتقي القطب الغوث، وعن ذلك يقول:
(لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ الصالح أبي الفتح الواسطي فما رأيت في العراق مثله، وكان بالعراق شيوخ كثيرة، وكنت أطلب على القطب، فقال لي الشيخ أبو الفتح: تطلب على القطب بالعراق وهو في بلادك؟ ارجع إلى بلادك تجده، فرجعت إلى بلاد المغرب إلى أن اجتمعت بأستاذي الشيخ الولي العارف الصديق القطب الغوث أبي محمد عبد السلام بن مشيش الشريف الحسني).
وكان الشيخ أبو الفتح الواسطي من أجلِّ تلاميذ شيخ الأولياء وقطب العراق الأكبر الشيخ أحمد الرفاعي، عنه أخذ الطريقة الأحمدية الرفاعية وسلك المريدين.
ثم يقول أبو الحسن عن لقائه الأول بشيخه ابن مشيش: (لما قدمت عليه وهو ساكن منارة برباطه في رأس الجبل، اغتسلت في عين أسفل الجبل، وخرجت عن علمي وعملي وطلعت عليه فقيرًا، وإذا به هابط علي، فلما رآني قال: مرحبًا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار، وذكر نسبي إلى رسول الله J، ثم قال لي: يا علي، طلعت إلينا فقيرًا عن علمك وعملك، أخذت منا غنى الدنيا والآخرة، فأخذني منه الدهش، فأقمت عنده أيامًا إلى أن فتح الله علي بصيرتي، ورأيت له خرق عادات من كرامات وغيرها).
والتقى المريد مع شيخه، أو الوارث مع المورث للسر الأعلى، وبدأت الفتوحات الربانية تتوالى على أبي الحسن، وكان (ابن مشيش) كما قال صاحب كتاب (المفاخر العلية): (ومقامه بالمغرب كالشافعي في مصر).
وصايا ابن مشيش
وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى) أن أبا الحسن الشاذلي ذكر من وصايا شيخه ابن مشيش قوله: (أوصاني أستاذي رحمه الله فقال:
(حدد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وفوق كل شيء، وقريبًا من كل شيء، ومحيطًا بكل شيء، بقرب هو وصفه، وبإحاطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب بالمسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وأمحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، كان الله ولا شيء معه).
ومرة كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي جالسًا بين يدي شيخه ابن مشيش، وحدثت هذه الواقعة الفريدة التي حكاها هو بنفسه، يقول: (وكنت يومًا جالسًا بين يديه وفي حجره ولد صغير فخطر ببالي أن أسأله عن اسم الله الأعظم، فقام الولد إلي ورمى يده إلى أطواقي وقال: (يا أبا الحسن أردت أن تسأل الشيخ عن الاسم الأعظم، إنما الشأن أن تكون أنت الاسم، – يعني سر الله مودع في قلبك -، قال: فتبسم الشيخ وقال: أجابك فلان عنا، ثم قال لي: يا علي، ارتحل إلى إفريقية واسكن بها بلدًا تسمى (شاذلة) فإن الله يسميك الشاذلي، وبعد ذلك تنتقل إلى مدينة تونس، ويؤتى عليك بها من قبل السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق وترث فيها القطبانية، فقلت له: يا سيدي، أوصني، فقال:
(الله الله والناس، تنزه لسانك عن ذكرهم، وقلبك عن التماثيل من قبلهم، وعليك بحفظ الجوارح، وأداء الفرائض، وقد تمت ولاية الله عليك، ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك، وقد تم ورعك، وقل: (اللهم أرحني من ذكرهم، ومن العوارض من قبلهم، ونجني من شرهم، وأغنني بخيرك عن خيرهم، وتولني بالخصوصية من بينهم، إنك على كل شيء قدير).
وقد ارتحل أبو الحسن إلى (شاذلة) كما أمره شيخه ومرشده الروحي ابن مشيش، ومنها أخذ لقبه الذي سماه به الله تعالى من الأزل وهو (الشاذلي)، ومنها ارتحل لتونس، وضاق به علماء السلطان، وابتلي بالمحن كما ابتلي كل سائر إلى الله، وكل داع، من الأنبياء إلى خيرة الأولياء، ليتم اصطفاؤه، وتسطع أنواره، وتشرق شمس نهاره، ويرفع الله ذكره، وهذا ما نعرفه في الحلقة التالية.