الظلم استعمال الحقائق في غير ما خلقت له والتصرف في ملك الغير، وليس من الظلم أن توجد في حقيقة واحدة أنواع من المزروعات أو المصنوعات أو المباني ما دامت تلك الحقيقة صالحة لذلك، كما يفعل مالك الأرض في تقسيمها وإعدادها لأنواع كثيرة مختلفة؛ فهذا ليس بظلم….
فضيلة الشيخ قنديل عبدالهادي
بقية: إشارة روحانية
الإشارة: لما انفصلت الأرواح من عالم الجبروت؛ كانت على الطهارة الأصلية، والنزاهة الأزلية، عالمة بأسرار الربوبية وعظمة الألوهية، لكن لم يكن لها إلا جنة الحرية، دون جنة العبودية، فلما أراد الحق تعالى أن يمتعها بجنتين عن يمين وشمال، أمرها بالنزول إلى أرض العبودية، في ظلل من غمام البشرية، فمنَّ عليها بحلاوة المشاهدات وسلوان المناجاة، وقال لها: )كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ( من طرائف العلوم، وفواكه الفهوم.
هذا لمن اعتنى برُوحه فاستكمل فضيلتها، وخالف هواها، فنفذت من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، فلم تنحجب بسحب الآثار إلى نفوذ شهود الأنوار، بل غابت عن شهود الآثار بشهود الأنوار.
أما من حجبت عن شهود الأنوار بالوقوف مع الآثار، ووقعت في شبكة الحظوظ والشهوات، وربطت بعقال الأسباب والعادات؛ فقد ظلمت نفسها، وبخست حقها من مشاهدة مولاها؛ حتى اتسعت عليها دائرة الحس، ولم تنفذ إلى المشاهدة والأنس. وأنشدوا:
كَمِّلْ حقيقتــــــــــك التي لم تكمُـــــلِ
والجسمَ ضَعْهُ في الحضِيض الأسفلِ
أَتُكَمِّلُ الفَـــــــــــانِي وَتَتْرُك باقيـــــًا
هَمَلًا، وأَنت بأمـــــــــرِه لم تحفـلِ؟
فالجسمُ للنفـــس النفيســـــــــــةِ آلـةٌ
ما لَمْ تُحَصِّلْـــــه بهــا لـم يحْـــصُلِ
يَفْنَى، وتَبقـــى دائمًا في غِبْطــــــــةٍ
أو شِـــقْوةٍ وندامـــــــــــــة لا تنْجَلِي
أُعْطِيـــــتَ جِسْـــمَكَ خادمًا فخدمْتَه
أَتُمَلِّكُ المفضـــولَ رِقَّ الأفـضــــلِ؟
شَــــرَكٌ كثــيـــفٌ أنــتَ في أحْبَالِهِ
مَا دام يُمكنك الخَلاصَ فَعَجِّــــــــلِ
مَنْ يستطيعُ بلــــــــوغَ أَعْلَى مَنزلٍ
ما بالَهُ يرضَـــــــــى بأدنَى مَنْزِل!
الله سبحانه تعالى عن أن يَظلم أو يُظلم
في قول الله تعالى: )وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (البقرة: 57)، نفى الله تعالى ظلمهم إياه وذلك معلوم بالضرورة لأهل الإيمان؛ لأنه سبحانه هو العلي العظيم عن أن يظلم خلقَه أو يظلمه خلقُه، ولكنه سبحانه أراد أن يبين حقيقة من الحقائق؛ هي أنه Y لم يقدِّر العقوبة على مرتكبي الآثام؛ لأنه تأثر من مخالفتهم فأراد أن يشفي غليله منهم؛ لا.
ولكنه I عليّ عظيم، قدَّر الأقدار قبل الأكوان ويسَّر كُلًّا لما خلقه له، وما من مخلوق يوم القيامة إلا وبيده طائره، فإذا قرأه قامت الحجة له أو عليه؛ لأن المحسن أحسن إلى نفسه، والمسيء أساء إليها.
وفي قوله تعالى: )وَمَا ظَلَمُونَا( إشارة إلى نفي حقيقة الظلم عنه سبحانه نفيًا باتًّا يستحيل وقوعه.
وفيه إشارة أيضًا إلى أنه تنزه وتعالى يحب الخير لخلقه جميعًا ويأمرهم به، ويقدر تقدست ذاته ما شاء، ولم يُرد في قَدَره شَرًّا؛ لأن إرادة الشر لا تكون إلا من عاجز عن تنفيذ قدره، أو ممن يكون له شريك يخشى منه أن يقهره على ترك مراده، وهذان المعنيان مستحيلان على الله تعالى، فإن الخلق من حملة العرش إلى تخوم الأرضين مخلوقون مربوبون، بل عباد عابدون لا حول لهم ولا قوة إلا بالله، ولكنها أقدار تنفذ بحكمة خفية، وأوامر ونواه، وهي البلاء الأكبر لتكون لله الحجة البالغة علينا.
دلالة الأوامر والنواهي
والأوامر والنواهي – كما يبين الإمام أبو العزائم في هذا السياق من تفسيره – تدل على تعظيم العبد ربه واستحضار كبريائه ومجده، أو على التهاون به سبحانه Y، وفي الأوامر والنواهي حسن معاملة العبيد لله تعالى؛ أو ظلمهم لأنفسهم بالمخالفة.
والسلامة في التسليم؛ وفي المسارعة إلى العمل بما أمر به واجتناب ما نهى عنه.
معنى الظلم
والظلم استعمال الحقائق في غير ما خلقت له والتصرف في ملك الغير، وليس من الظلم أن توجد في حقيقة واحدة أنواع من المزروعات أو المصنوعات أو المباني ما دامت تلك الحقيقة صالحة لذلك، كما يفعل مالك الأرض في تقسيمها وإعدادها لأنواع كثيرة مختلفة؛ فهذا ليس بظلم.
ونفي الله ظلم بني إسرائيل عنه لا يقتضي أن غيرهم ظلمه؛ لأنه نفاه لعظمته وعلوه وكبريائه سبحانه عن أن يصل إليه ظلم من عبيد مقهورين وعباد مربوبين.
وفي نفيه ظلمهم عنه بلفظ الماضي دليل على استحالة هذا العمل من كل العالم، وفي إثباته الظلم منهم عليهم بلفظ المضارع دليل على أن الإنسان لجهله يعمل ما يهلكه إلا من حفظ الله تعالى، ودليل ذلك ما وقع منهم بعد موسى في زمان داود وسليمان وعيسى بن مريم D مما بينه الله في القرآن المجيد، ولم يقف الأمر بهم إلى هذا الحد، بل تعداه إلى أن فعلوا في النبي عليه الصلاة السلام شرًّا مما فعلوا في زمان موسى وعيسى، وها هم – إلى زماننا هذا – لا يزدادون إلا ضلالًا وغَيًّا.
إشارة إلى الإنابة إلى الله تعالى والاعتراف بوقوع الخطايا
في قول الله تعالى: )وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ( (البقرة: 58).
يذكِّر اللهُ تعالى معاصري رسول الله J من اليهود أمره أسلافهم بدخول القرية لينالوا بها الرخاء والراحة في المأكل والمشرب والمسكن بدليل قوله تعالى: )فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا( – رغدًا: طيّبًا واسعًا، أو: هنيئًا لا عناء فيه – والقرية يتعين أنها “أريحيا” – أو أريحا – وإن نقل بعض المفسرين أنها بيت المقدس؛ لأن سيدنا موسى A مات قبل دخول بيت المقدس، والذي دخل مع بني إسرائيل بيت المقدس هو “أشعيا” A، فلم يبق إلا أن القرية هي أريحيا، وهي وإن كان أقل من بيت المقدس دينا ودنيا؛ إلا أنها ذات زراعات وتجارات ومساكن.
)فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا( يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشًا هنيًّا واسعًا بغير حساب.
ويبين الإمام أبو العزائم أن الله تعالى أمرهم بأن يقولوا )حِطَّةٌ( وأن يدخلوا سجدًا إشارة إلى الإنابة إلى الله تعالى، والاعتراف بوقوع الخطايا أمامه سبحانه بالقول والعمل والحال، فبالقول كلمة: )حِطَّةٌ(، وبالعمل: السجود، وبالحال: خشوع القلب وانكساره أمام عظمة وعطف وحنان وغفران الكبير المتعال.
وقيل في معنى )وَادْخُلُوا(: باب القرية راكعين تواضعًا وشكرًا، )وَقُولُوا( في دخولكم: شأننا )حِطَّةٌ(، أي: شأننا الانحطاط والتواضع له، فإن فعلتم ذلك )نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيد( من امتثل أمرنا وأحسن الأدب معنا خيرًا كثيرًا في الدنيا والآخرة.
وقال الحسن وقتادة: أي: احطُط عنا خطايانا.
وقال ابن زيد: )وَقُولُوا حِطَّةٌ( يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم.