سماحة مولانا الإمام المجدد حجة الإسلام والمسلمين في هذا الزمان السيد محمد ماضى أبو العزائم – قدس الله سِرَّكُمْ، ونفعنا الله بكم، وجعلكم وليًّا مرشدًا لطلاب العلم النافع – لقد كشفتم في اللقاءين الماضيين عن مراتب الصوم عند أصحاب المقامات، وأصل الأصول وبرزخ الوصول ببيانٍ أسكر الأرواح عند سماعه، مما حدا بنا أن نستشرف حكمة الحج ومشاهده وآدابه وأسراره؛ حتى ننتفع بهذه الفريضة في أشهر الحج المعلومات.
فأجاب سماحته قائلاً:
الأحكام الشرعية
يا بنى: لما كانت الأحكام الشرعية كلها لا يمكن أن يقوم بها العامل على وجهها الأكمل إلا إذا كان عاملًا بقلبه وجسمه، ولمَّا كان كل ركنٍ من أركان الأحكام الشرعية للقلب فيه عمل خاص وملاحظات خاصة، لا يمكن أن يكون العمل كاملًا شرعًا؛ إلا باستيفاء تلك المعانى، ولو أن المسلم حرَّك جسمه بتأدية الأحكام الشرعية مع غفلة قلبه عن الاستحضار الذى يتمثل فيه لمن العمل؟ ولم العمل؟ ومن هو العامل؟ وما الغاية الباعثة عليه؟ كان العمل ناقصًا أو مردودًا لعدم استيفاء شروطه شرعًا، وهذا لغفلة القلب، فإن الأعمال البدنية صور ميتة، وإنما حياتها وروحها بالإخلاص فيها.
والحج: هو الركن المالى البدنى الروحانى، أما كونه بدنيًّا فلانتقال الجسم من مكان إلى مكان، وأما كونه ماليًّا فلبذل الأموال في النفقة على نفسه في زاده وراحلته، وأمَّا كونه روحانيًّا فلأن الحاج قاصدٌ ربه بانتقاله، فهو لا يقطع مرحلة كونية إلا تقطع الروح مرحلة من مراحلها؛ حتى تصل إلى جناب القدس الأعلى، ولهذه المعانى كلها أشار الله تعالى إلى أن من توفرت لديه معدات الحج وأهمله كان كأنه كفر، قال الله تعالى: )وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(([i]) أى: ومن كفر بترك الحج بعد الاستطاعة فإن الله غنى عنه وعن عمله، فالحج ظاهره انتقال إلى مكة المكرمة، وباطنه فرار من الدنيا إلى الملكوت الأعلى بالروح، إنما يشهد تلك المعانى من عمل بما علم عملًا مطابقًا لسنة رسول الله J، قال رسول الله J: (مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)([ii]).
من مشاهد الحج
ومن خرج من بيته مهاجرًا إلى الله، موقنًا أنه سيزول البيْنُ من البيْنِ، وتقع عيْن بصيرته على جمال مولاه العلىِّ، كيف يكون حاله في سيره؟، ولا أشك أنه يكون في أرفع درجات الشوق إلى مولاه، وأكمل أحوال الخشوع والرهبة من ربه الذى خلقه ودعاه إلى حضرته العلية فلبَّاه، لا تخطر على قلبه الدنيا لاستغراقه في الشوق إلى الله، فلا ينتقل خطوة إلا ويشهد مشاهد تنمو بها صبوته، وتقوى حالته، وتجدد بها رهبته. يشهد من كل ركن من أركان الحج مشاهد ملكوتية، فيشهد في مقام الإحرام إخلاص القلب من كل حظٍّ وهوًى في التوجه إلى الله، وتطهير السرِّ من كل علة وغرض لمواجهة الله، وقطع كل علاقة بينه وبين أهله وولده إقبالًا على الله، ورغبة فيما عند الله، وحسن ثقة بولاية الله لهم، وهكذا لا ينتقل من ركن إلى ركن، ولا من مكان إلى مكان؛ إلا أشهده الله ملكوت كل مكان، وأسرار كل عمل من الأعمال؛ حتى إذا وقف على عرفات نفسه، فعرف ربه ورجع إلى بيت الوجهة بيت ربه الحرام، منيبًا إليه بعد المعرفة، ذاكرًا جنابه العلى، لا يشغله عن ذكر الله ذكر والد ولا ولد، بل ولا دنيا ولا آخرة، وعند ذلك يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم يتجلَّى الغفور التواب فيمنحه بدل كل سيئة حسنة، فيرجع وهو كيوم ولدته أمه مطهرًا من الذنوب، وهو كمن عبد الله بأخلص نية طول عمره سر قوله تعالى: )فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ(([iii]).
آداب الحج
أما الآداب فسبعة:
الأول: أن يرتاد للطريق رفيقًا صالحًا ونفقةً طيبةً حلالًا، فالزاد الحلال ينور القلب، والرفيق الصالح يذكر بالخير، ويزجر عن الشر.
الثانى: أن يخلِّى يده عن مال التجارة لكى لا يتشعب فكره، وينقسم خاطره، ولا يصفو للزيارة قصده.
الثالث: أن يوسِّع في الطريق بالطعام، ويطيب الكلام مع الرفقاء والمكاري.
الرابع: أن يترك الرفث والجدال والتحدث بالفضول في أمر الدنيا، بل يقصر لسانه – بعد مهمات حاجاته – على الفكر وتلاوة القرآن.
الخامس: أن يركب راحلة دون المحمل، ويكون رث الهيئة أشعث أغبر غير متزين، بل على هيئة المساكين؛ حتى لا يكتب في جملة المترفين.
السادس: أن ينزل عن الدابة أحيانًا ترفيهًا للدابة([iv])، وتطييبًا لقلب المكاري، وتخفيفًا للأعضاء بالتحرك، ولا يحمِّل الدابة ما لا تطيق، بل يرفق بها ما أمكن.
السابع: أن يكون طيِّب النفس بما أنفق من نفقة، وبما أصابه من تعب وخسران، وأن يرى ذلك من آثار قبول الحج، فيحسب الثواب عليه.
أسرار الحج
وأما أسراره فكثيرة نرمز منها إلى أمرين:
الأمر الأول: أنه وضع بدلًا عن الرهبانية التى كانت في الملل كما ورد به الخبر([v])، فجعل الله سبحانه الحج رهبانيةً لأمه سيدنا محمد J، فشرَّف البيت العتيق وأضافه سبحانه إلى نفسه ونصبه مقصد العباد، وجعل كل ما حواليه حرمًا لبيته تفخيمًا لأمره، وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، وأكَّد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، ووضعه على أمثال الملوك ليقصده الزوار من كل فج عميق، ضعفاء غبراء متواضعين لرب العالمين خضوعًا لجلاله، واستكانة لعزَّته، مع الاعتراف بتنزهه عن أن يكتنفه بيت، أو يحويه مكان، ليكون ذلك أبلغ في رقِّهم وعبوديتهم لذاته Y، ولذلك كلفهم سبحانه أعمالًا غريبة لا تناسب الطبع والعقل، ليكون إقدامهم بحكم محض العبودية، وامتثال الأمر من غير معاونة باعث آخر، وهذا سرٌّ عظيم في الاستعباد، ولذلك قال J: (لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا)([vi]).
الأمر الثانى: أن هذا السفر وضع على مثال سفر الآخرة، فليتذكر المريد بكل عمل من أعماله أمرًا من أمور الآخرة موازيًا له، فإن فيه تذكرةً للمتذكر، وعبرةً للمعتبر المستبصر، فتذكر من أول سفرك عند وداعك أهلك وداع الأهل في سكرات الموت، ومن مفارقة الوطن الخروج من الدنيا، ومن ركوب الجمل ركوب الجنازة، ومن الالتفاف في أثواب الإحرام الالتفاف في أثواب الكفن، ومن دخول البادية إلى الميقات ما بين الخروج من الدنيا إلى ميقات القيامة، ومن هوْل قطَّاع الطريق سؤال منكر ونكير، ومن سباع البوادى عقارب القبر وديدانه، ومن انفرادك عن أهلك وأقاربك وحشة القبر ووحدته، ومن التلبية إجابة داعى الله U يوم البعث.
وكذلك في سائر الأعمال، فإن في كل عمل سرًّا وتحته رمزًا يتنبه له كل عبد بقدر استعداده للتنبُّه بصفات قلبه، وقصور همِّه على مهمَّات الدين، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يمنحنا المعونة والتوفيق لعمل ما يحب، ويجعل لنا نورًا نمشى به في الناس، إنه مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
========================================
([ii]) جاء في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطى1/20، وفى إحياء علوم الدين بتخريج الحافظ العراقى 1/138.
([iv]) لقوله عليه الصلاة والسلام: (لاَ تَتَّخِذُوا ظهور دوابكم كراسى)، وهذا الحديث أخرجه أحمد من حديث سهل بن معاذ، ورواه الحاكم وصححه، وكذلك أيضًا حديث: (كَانَ النَّبِىُّ J يَنْزِلُ عَنِ الدَّابَّةِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، يُرِيحُهَا بِذَلِكَ)، وقد أخرج هذا الحديث الطبرانى في الأوسط، ورواه البيهقى في الأدب أيضًا.
([v]) حيث يقول رسول الله J: حين سأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه: (أَبْدَلَنَا اللهُ بِهَا الْجِهَادَ وَالتَّكْبِيرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ)، يقول الإمام الغزالى: يعنى الحج، وهذا الحديث أخرجه أبو داود من حديث أبى أمامة، ورواه الطبرانى بلفظ: (إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سِيَاحَةٌ وَسِيَاحَةُ أُمَّتِى الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةٌ، وَرَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِى الرِّبَاطُ في نَحْرِ الْعَدُوِّ)، وقد أوضح الإمام الغزالى في الإحياء هذا الموضوع.
([vi]) هذا الحديث أخرجه البزار والدارقطنى في العلل من حديث أنس، وقد أورده الغزالى في الإحياء ج 1 ص 212، ص 266.