أخبار عاجلة

رسالة في الحقوق والآداب (12)

أضع بين يدي المربين جميعًا أهم هذه الأصول والمراحل؛ حتى يقوموا بمسؤوليتهم بواجب التربية والإعداد والتكوين…

الدكتور جمال أمين

بقية: المراقبة والنقد الاجتماعي

الآن أضع بين يدي المربين جميعًا أهم هذه الأصول والمراحل؛ حتى يقوموا بمسؤوليتهم بواجب التربية والإعداد والتكوين:

1- حراسة الرأي العام وظيفة اجتماعية:

فرض الإسلام حراسة الرأي العام الذي يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مجموع الأمة على اختلاف أصنافها وأنواعها دون أن يكون بينها تفريق أو تمييز، فرضها على الحكام والعلماء، على الخاصة والعامة، على الرجال والنساء، على الشيب والشباب، على الصغار والكبار، على الموظفين والعمال، على الكل على حد سواء، واعتبر هذه المهمة وظيفة اجتماعية لا يُعفى منها أي إنسان، كل على حسب حاله، وحسب طاقته، وحسب إيمانه.

والأصل في هذا قوله تبارك وتعالى: )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( (آل عمران: 110).

وقوله تعالى في وظيفة المؤمنين الاجتماعية: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (التوبة: 71).

والنبي صلوات الله وسلامه عليه حين كان يأخذ البيعة من أصحابه، ومن كل من ينتمي إلى جماعة المسلمين، كان عليه الصلاة والسلام يعاهدهم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أن يقولوا بالحق أينما كانوا ولا يخافون في الله لومة لائم.

روى الشيخان عن عبادة بن الصامت 0 قال: “بايعنا رسول الله o على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثَرة علينا (الإيثار)، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنَّا، لا نخاف في الله لومة لائم”.

وقد مثّل لهم عليه الصلاة والسلام رقابة المجتمع للفرد، ورقابة الفرد للمجتمع بمثال السفينة، ليؤكد لكل مسلم وظيفته الاجتماعية في الرقابة والنقد الاجتماعي، والأخذ على يد الظالم؛ حتى تسلم للأمة عقيدتها وأخلاقها، ويتحقق لها كيانها ووجودها، وتكون دائمًا في مأمن من عبث العابثين، واستبداد الطغاة الظالمين.

وروى البخاري والترمذي عن النعمان ابن بشير 0، عن النبي o قال: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (اقترعوا) على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقَوْا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا ونجوا جميعًا”.

– ومما يؤكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أبناء الأمة الإسلامية، وأنه وظيفة اجتماعية على كل فرد مسلم: استحقاق بني إسرائيل لعنة الله لعدم تناهيهم عن المنكر، ولا يستحق الإنسان لعنة الله إلا إذا ترك أمرًا واجبًا في عنقه؛ فدلت آية: )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ…..( (المائدة: 78) على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل مسلم رجالًا ونساء، شيبًا وشبانًا، صغارًا وكبارًا.

– ويدل على هذا الوجوب أيضًا: قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي: “لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا؛ فجالسوهم في مجالسهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون”، فجلس النبي o وكان متكئًا، فقال: “لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم (تُلزموهم) على الحق أطرًا”.

– ومما يؤكد هذا الوجوب كذلك: شمول الهلاك لكل متقاعس عن حق الإسلام والمجتمع في التقويم والإصلاح، والضرب على يد العابثين والمفسدين.

روى الشيخان عن زينب بنت جحش 1 أنه النبي o دخل علينا فَزِعًا يقول: “لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٌّ قد اقترب، فُتِح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه”، وحلَّقَ بين إصبعيه: الإبهام والتي تليها، فقلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثر الخَبَث (الفسوق والمنكر)”.

– ومما يؤكد هذا الوجوب كذلك: أن الله سبحانه لا يستجيب إلى دعاء أحد من الأمة حتى الخيار منهم لكونهم تقاعسوا عن واجب مجاهدة الضالين، ومقاومة الظالمين، روى الترمذي عن حذيفة 0، عن النبي o قال: “والذي نفسي بيده لتأمُرُنّ بالمعروف، ولتنهَوُنّ عن المنكر، أو ليوشِكنَّ الله أن يبعث عليكم عذابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم”.

وروى ابن ماجة وابن حبان عن عائشة 1 قالت: دخل النبي o فعرفت في وجهه أنه حضره شيء فتوضأ، ما كلَّم أحدًا، فلصِقْتُ بالحجرة استمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: “يا أيها الناس: إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم”، فما زاد عليهم حتى نزل.

وأما ما يحتج به البعض من حديث النبي o فيما رواه مسلم: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان”. أن الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على عوام الناس، فهذا الاحتجاج لا ينهض على دليل، ولا يستند على حجة؛ لأن لفظ “من” في قوله عليه الصلاة والسلام: “من رأى منكم……” هو لفظ يدل على العموم، ويشمل كل من استطاع تغيير المنكر باليد أو اللسان أو الإنكار بالقلب، سواء أكان المنكر من الأمراء أو العلماء أو عامة الناس إذا فقهوا الخطر الذي يترتب عليه تفشي المنكر، وذلك للعموم الذي يدل عليه الحديث الذي سبق، ولعموم كلمة “أمة” في قوله تعالى: )وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (آل عمران: 104)، فإن كلمة (أمة) تشمل الأمة بأسرها على اختلاف طبقاتها ومستوياتها سواء أكانوا حكامًا أو علماء أم عامة……؟ وإلا فيكف يتأتى للأمة أن تكون واقفة بالمرصاد للذين يتأمرون على دينها وأخلاقها، ويعبثون بعقائدها ومقدساتها. ويعيثون في الأرض ظلمًا وفسادًا، ويريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؟. كيف يتأتَّى لهم الوقوف إذا لم تتضافر الأمة بأسرها على مقاومة المنكر. وتقف صفًّا واحدًا أمام العابثين والظالمين!!؟

ألا فليغرس المربون في نفوس الناشئة بذور الجرأة الأدبية، والشجاعة النفسية في القول والعمل؛ حتى ينشأ الولد منذ نعومة أظفاره على حراسة الرأي العام، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنقد الاجتماعي البنّاء الحكيم لكل إنسان.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (32)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …