عبر التاريخ الإنساني، آمنت العديد من الحضارات بالله الواحد أو بالآلهة المتعددة، كما آمنت بمفهوم الحياة الآخرة: سواء كانت مكافأة، أو عقابًا لما فعلوه في حياتهم. ومعلوم أن الموت هو الحقيقة المطلقة في حياة الناس، وقد عرضت العديد من النِّحَلِ الوضعية والشرائع السماوية طريقة لرؤية الحياة الآخرة وما يأتي معها...
السيد علاء أبو العزائم
شيخ الطريقة العزمية
ورئيس الاتحاد العالمي للطرق الصوفية
الجنة .. الحلم الذي يحققه الإسلام [2]
قلنا فيما مضى: إن الجنة ذلك الحلم القديم المنتظر، لم يزل يراود البشر في أحلامهم وتطلعاتهم، فالكل يتحمل مشقة الحياة وظلم أقرانه من البشر من أجل أن يحظى بالخلود الأبدي في جنة النعيم، التي ما زال يسمع عنها من أنبيائه أو معلميه الروحيين.
وعرضنا رؤية الآخرة والجنة والنار عند عدد من الحضارات القديمة، والنِّحَل الوضعية، وسنبدأ بداية من هذا المقال الحديث عن الآخرة والجنة والنار في الشرائع السماوية.
ثالثًا: الآخرة في الشرائع السماوية
1- الصابئة:
الصابئة هي إحدى الشرائع الإبراهيمية، وأتباعها يتبعون أنبياء الله: آدم، شيث، إدريس، نوح، سام بن نوح، يحيى بن زكريا.
كلمة الصابئة مشتقة من الجذر (صبا) والذي يعني باللغة المندائية اصطبغ، غط أو غطس في الماء، وهي من أهم شعائرهم الدينية؛ وبذلك يكون معنى الصابئة أي المصطبغين بنور الحق والتوحيد والإيمان.
تدعو الصابئية للإيمان بالله ووحدانيته مطلقًا، لا شريك له، واحد أحد، وأسماؤه وصفاته عندهم مطلقة.
وعندهم أن الإنسان الصابئي المؤمن التقي يدرك تمامًا، أن (القـوة الغيـبيّـة) هي التي تحدد سلوكه وتصرفاته، ويعلم أيضًا أن أي إنسان مؤمن ضمن الإطار العام لهذا الكون الواسع، وضمن شريعته السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية، يشاطره هذا الإدراك والعلم، حيث إن مصدر جميع هذه الشرائع هو الله المسبح اسمه، واعتبرهم مشايخ المسلمين من أهل الذمة؛ لأن جميع شروط وأحكام أهل الذمة تنطبق عليهم، لكونهم أول شريعة موحدة، ولهم كتابهم السماوي (الكنزا ربا)، وأنبياؤهم تجلهم جميع الشرائع، مع ذكرهم بالقرآن الكريم.
يرى الصابئة أن الإنسان يحملُ في مادة جسده الفانية “نسمة النور” (نشمثا/ النفس) وهي الوحيدة التي لا تموت، ولذلك تخرجُ من الجسد بعد الموت، لتعود إلى عالم النور، أما الجسدُ فيفنى.
لا يوجد لدى الصابئة خلود في الجحيم؛ بل عندما يموت الإنسان إمَّا أن ينتقل إلى الجنَّة أو المطهر حيث يُعذَّب بدرجات متفاوتة؛ حتى يطهر، فتنتقل روحه بعدها إلى الملأ الأعلى.
إن أساطير خروج الروح ومحاولتها العودة إلى عالم النور تشكِّل المتن الأساس في ما نسميه بأساطير الموت أو النهاية عند الصابئة، لكن عودة الروح وعروجها تشكّل نصف الدائرة، بينما يشكل هبوط الروح من عالم النور إلى الجسد النصف الأول في بداية خلق الإنسان، ولذلك تتكون دائرة الروح من نصفين مترابطين، وتكون أساطير هذه الدائرة مشتملة على ميثولوجيا المبدأ (حيث هبوط الروح في خليقة الفرد) وميثولوجيا المعاد أو العروج (حيث صعود الروح بعد موت الفرد).
وفي معتقدات الصابئة: ليس للرجل غير المتزوج من جنة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
2- اليهود:
يقول الدكتور مصطفى محمود عن التوراة: (ودائمًا مكافأة الله لعباده وعقابه لهم يكون فوريًّا ودنيويًّا… لا ذكر لبعث وجنة ونار وحساب وآخرة، ولك ما تقوله التوراة حينما يضطجع أنبياؤهم ليموتوا أنهم يذهبون إلى أرض “شول” التي لا رجعة منها… والجنة التي تَعِد بها التوراة هي نعمة دنيوية “يبارك الرب ثمرة بطنك وثمرة أرضك… قمحك وخمرك وزيتك ونتاج بقرك وإناث غنمك… يعطيك قوة لتصطنع ثروة… يجعلك الرب رأسًا لا ذنبًا… يعطيك أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا… يطيل أيامك. كل مكان تدوسه أقدامكم يكون لكم من لبنان في نهر الفرات إلى البحر الغربي تكون تخومكم”، أمَّا الجحيم فهو لعنة تنزل بصاحبها في الدنيا)([1]).
ويقول ليوتاكسيل: (إن العهد القديم لا يأتي على ذكر جهنم أو المطهر في أي فصل من فصوله… ففي أي سفر من أسفار التوراة لا تقع على تعبير ” خلود الروح “، ومما يُذكر هنا أن المسيحيين أخذوا ديانتهم من هذه الأسفار نفسها)([2]).
ويقول حنا حنا: (كل صفحات التوراة (العهد القديم) لم تأتِ على ذكر مكان سماوي ينتهي إليه الإنسان كعقاب أو ثواب، إنما الجنة وجهنم فموضعهما أرضي لا سماوي… إن كلمة “جهنم” بمفهومها الجحيمي: الموضع الذي ينتهي إليه الأشرار، ذُكرت أول ما ذُكرت في العهد الجديد وليس العهد القديم)([3]).
ويقول عبد المجيد همو: (إن أي ديانة من السماء لا تخلو من الحياة الأخرى، بل إن بعض الديانات الأرضية ذكرت الثواب والعقاب والآخرة كتعويض لِمَا يصيب الإنسان مِن ظُلم في هذه الحياة الدنيا)، ثم يقول: (وأعتقد تمام الاعتقاد أن ديانة موسى A لم تخلُ من وجود الآخرة والثواب والعقاب، لكن عزرا ونحميا حينما شكلا الديانة اليهودية حرماها من وجود الآخرة، واعتمدا العقوبة الحياتية والثواب الحياتي، ولا ذكر للآخرة في الأسفار الخمسة)([4]).
أولاً: الجنة عند اليهود
ورد في قاموس الكتاب المقدس([5]) تحت كلمة فردوس: “الفردوس الأصلي، الذي رتبه الله للإنسان قبل سقوطه ووضع في وسطه شجرة الحياة، وأطلقت الكلمة على كل بستان في قصور الملوك”.
وورد فيه تحت كلمة جنات: “جنات بساتين معدة للانشراح واللذات، منها جنات الملك سليمان وفيها سواقي وينابيع، وكانت هذه الجنات مصونة لكي لا يدخلها الغريب”.
والغريب أن التوراة، عند الحديث عن الجنة، لم تشر من قريب أو بعيد إلى أنها المكان الذي يثاب فيه الصالحون يوم القيامة، واليهود يعترفون بذلك، ويعتبرون أن خلو التوراة من الحديث عن الثواب والعقاب لا يضرها.
وإذا كان العهد القديم (التوراة) لم يتحدث عن الثواب للصالحين في الآخرة؛ فلدينا بعض النصوص في التلمود التي تتحدث عن جزاء الصالحين يوم القيامة.
فعن مساحة الجنة ورد في التلمود([6]) “مساحة مصر أربعمائة ميل طولًا وعرضًا، وأرض الموريين تكبر مصر ستين مرة، والمعمورة تكبر أرض الموريين ستين مرة، والجنة تكبر المعمورة ستين مرة”.
وعن نعيم الجنة جاء فيه: “الجنة ليست مثل هذه الأرض؛ لأنه لا أكل فيها ولا شرب، ولا زواج ولا تناسل، ولا تجارة، ولا حقد ولا ضغينة، ولا حسد بين النفوس، بل الصالح سوف يجلس وعلى رأسه تاج ويستمتع برونق السكينة”.
يقول سعديا الفيومي([7]) مؤكدًا النص السابق: “نقلوا لنا – أي الآباء – أن دار الآخرة إنما الحياة فيها بالنور، وليس مع ذلك طعام ولا شراب، ولا غشيان ولا تناسل، ولا شراء ولا بيع، ولا سائر الأمور التي في الدنيا، وإنما ثواب من نور الخالق عز وجل”.
ويقول: “دار الآخرة إذ لا غذاء فيها ولا تكسب، فلا معنى لرياض ولا لنبات ولا للأنهار ولا للجبال ولا للأودية ولا شيء من هذه”.
والغريب هنا، كذلك، أنه إذا كان علماء اليهود يقررون أن الجنة لا طعام فيها ولا شراب، فقد كان اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألون عن طعام أهل الجنة وشرابهم ليروا مدى صدقه.
فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت قائمًا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها. فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي”. فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أينفعك شيء إن حدثتك”. قال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعود معه، فقال: “سل”. فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “هم في الظلمة دون الجسر”. قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “فقراء المهاجرين”. قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “زيادة كبد النون”. قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها”. قال فما شرابهم عليه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “من عين فيها تسمى سلسبيلًا” قال: صدقت([8]).
ويتضح من خلال أسئلة اليهودي لرسول الله أنه يسأل عن الجنة وطعام أهلها وشرابهم، وكلما أجاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال اليهودي: صدقت؛ لأن إجابة الرسول كانت موافقة لما يعتقده.
فهل كان اليهود على عهد رسول الله يعتقدون في النعيم الحسي في الجنة؟ من الجائز، ويكون حديث التلمود والأمانات والاعتقادات يصور اعتقاد فرق من اليهود غير الذين كانوا على عهد رسول الله؟ هذا جائز أيضًا، أو هو التبديل والتحريف، الذي نص القرآن الكريم على ممارسة اليهود له، للكتب التي أنزلها الله على أنبيائه؟
ثانيًا: النار عند اليهود
صورت أسفار اليهود الجحيم كأنه مكان مظلم تحت الأرض، وله أبواب، وسكانه يشعرون وكأنهم في وجود بليد جامد، تذهب إليه نفوس الجميع، وفيه القصاص.
ومع أن التوراة خلت من الحديث عن الثواب والعقاب، فإن التلمود تحدث عن بعض أوصاف السعير الذي يعذب فيه العصاة.
وتنحصر تصورات اليهود في أمور منها:
أ. أن الجحيم له أبواب ثلاثة هي: باب في البرية، وباب في البحر، وباب في أورشليم.
ب. أن نار جهنم ليس لها سلطان على بني إسرائيل، وقال بعض الحاخامات:
(1) إن الإسرائيليين الذين اقترفوا الذنوب سيذهبون مع الأجانب إلى نار جهنم ويمكثون فيها اثنى عشر شهرًا.
(2) إنهم أبناء الله وأحباؤه؛ فإذا لا يمكثون في النار أبدًا، وإنما هي فترة وجيزة يخرجون بعدها إلى الجنة([9]).
3- المسيحيون:
على عكس اليهودية، فإن فكرة الخطيئة الأصلية الناتجة عن عصيان آدم للإله في الجنة تلعب دورًا محوريًّا في العقائد المتعددة لمختلف الكنائس المسيحية.
فبينما يولد الإنسان طاهرًا لدى اليهود والمسلمين، في المسيحية لا يتخلص الإنسان من خطيئته الأصلية إلا بقبوله ليسوع كمخلص له وإيمانه بالثالوث المقدس (الأب والابن والروح القدس).
الدور الكبير للخطيئة الأصلية في المسيحية يأتي من محورية صلب المسيح، وكون هذه التضحية كفارة للخطيئة الأصلية التي ورثها البشر.
تصف الكنائس المسيحية الجنة غالبًا بكونها مكانًا من الصفاء الروحي والاقتراب من الإله، فهي بذلك ليست مجسدة وحتى أنها ليست مكانًا محددًا بنظر الكثيرين، بل هي حالة من السعادة المطلقة والمحبة التي لا يشوبها أي ألم أو سوء أو مشاعر سلبية من أي نوع.
الجحيم بالمقابل، يعامل على أنه فيزيائي إلى حد بعيد، فالعذاب فيه جسدي بالإضافة للعذاب النفسي، ومقابل الجحيم المحدد بوقت معين في اليهودية؛ هو أبدي وخالد في المسيحية، والمعذبون فيه من الكفار الذين رفضوا قبول يسوع كمخلص لهم يخلدون فيه للأبد دون أمل بالخروج منه، تبعًا للعقيدة الكاثوليكية ومعظم الكنائس المشرقية الأرثوذوكسية.
تتفق الكنائس المسيحية عمومًا على كون عذاب الجحيم يأتي مقسمًا إلى سبعة مستويات (كالنعيم المقسم بدوره إلى سبعة مستويات)، كل منها مخصص لفئة محددة من المعاصي والذنوب التي لها عقوباتها المناسبة.
والعذاب مؤقت لمن يمتلك الإيمان، إلا أنه أبدي لمن هم خارج الكنيسة([10]).
أولاً: الجنة عند المسيحيين
ورد في قاموس الكتاب المقدس([11]) تحت كلمة جنة: أنها الفردوس الأصلي الذي رتبه الله للإنسان قبل سقوطه، ووضع في وسطه شجرة الحياة، وأطلقت الكلمة على كل بستان في قصور الملوك. وورد أيضًا تحت كلمة جنات: أنها بساتين معدة للإنشرح واللذات، وفيها جنات الملك سليمان، وفيها سواقي وينابيع.
والملاحظ أن قاموس الكتاب المقدس ربط شجرة الجنة بالبستان، الذي يملكه الملوك، وهي معدة للانشراح واللذات، وفيها جنات الملك سليمان وفيها سواقٍ وينابيع. كل هذه الصفات تطلق على البساتين في الأرض، لكن قاموس الكتاب المقدس لم يشر من قريب أو بعيد إلى أنها المكان، الذي يتمتع فيه الصالحون من المسيحيين في الآخرة.
وعلى الرغم من عدم إشارة المسيحيين إلى الجنة ونعيمها الحسي في الآخرة؛ إلا أنه سيُعرض فيما يلي بعض النصوص التي تتحدث عن الجزاء في الآخرة، المتمثل في الطعام والشراب والنكاح في الجنة:
أ. طعام وشراب أهل الجنة عند المسيحيين:
ورد في إنجيل يوحنا ما نصه: (اِعْمَلُوا لَا لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ؛ لأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ) [6: 27].
وورد فيه أيضًا قولهم للمسيح: ” آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْسَ مُوسَى أَعْطَاكُمُ الْخُبْزَ مِنَ السَّمَاءِ، بَلْ أَبِي يُعْطِيكُمُ الْخُبْزَ الْحَقِيقِيَّ مِنَ السَّمَاءِ) [6: 31-32].
فهذه النصوص تبين أن المسيحيين يرون أن في الآخرة طعامًا باقيًا يعطيه المسيح للمؤمنين به.
والنص الثاني يبرز، على لسان المسيح، أن هناك خبزًا فانيًا أكله آباء من يتحدث معهم المسيح، ولكن من يطعه ويؤمن به يأكل الخبز الحقيقي عند الله. ووعد المسيح لهم بالطعام في الآخرة مكافأة لهم، بيَّن كيف أن الإنجيل تحدث عن الطعام في الجنة. وهناك نص آخر في إنجيل لوقا يثبت الطعام والشراب في الآخرة. ورد في لوقا: (لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ) [22: 30].
والمسيحيون يعتقدون أن هذا الملكوت في الآخرة، وأن الدينونة بعد انقضاء العالم. والنص يثبت أن هناك طعامًا وشرابًا على مائدة المسيح، للذين يؤمنون به.
أما الشراب، ورد في إنجيل متى: (وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلًا: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ؛ لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا، وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ الآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هذَا إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي) [26: 26-29].
وهذا نص صريح في أن المسيح وعد تلاميذه أنه سيشرب معهم خمرًا من نتاج الكرمة في الآخرة. وهذا النص يبين أن في الجنة شربًا للخمر، كما صرح المسيح بذلك، على ما في إنجيل متى الحالي.
وأيضًا نص لوقا: (وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي) [22: 30]، نص صريح أيضًا على أن هناك شرابًا في الجنة.
ب. النكاح
ومن بين ثنايا نصوص الأناجيل نستخرج بعض النصوص، التي تثبت الزواج في الجنة، وملكية الصالح في الآخرة لأشياء كثيرة من البيوت والحقول.
ورد في إنجيل متّى: (وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلَادًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ) [19: 29].
وهذا نص صريح في أن نعيم الآخرة يشبه نعيم الجنة مع الاختلاف. وكان المسيح يرغبهم في ما عند الله، بأن من ترك منهم في الدنيا بيوتًا فله بدلًا منها مائة ضعف، وله حياة أبدية، والمائة ضعف والحياة الأبدية لا تكون إلَّا في الجنة.
وأيضًا من ترك حقولًا في الدنيا فله بدلًا منها مائة ضعف، ومن ترك زوجة، فله مائة زوجة – بنص الأناجيل مائة ضعف – وله الحياة الأبدية.
وكما ترى فإن النص صريح في النكاح والملكية في الآخرة، على الرغم من أن إنجيل متّى يصرح بأنه لا زواج يوم القيامة، يقول: (أَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لَا يُزَوِّجُونَ وَلَا يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ) [22: 30].
هذه النصوص التي تتحدث عن الطعام والشراب والقصور والزواج في الآخرة يؤولها المسيحيين إلى مجازات أخرى، غير كونها حقيقة حسية في الآخرة.
ج. كون الجنة مخلوقة ومعدة
ورد في إنجيل متّى: (ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ) [25: 34].
وهذا النص يوضح أن الجنة، التي يطلق عليها المسيحيون أحيانًا اسم الملكوت، معدةٌ منذ خَلْقِ الدنيا، ويدعوهم المسيح ليرثوها، جزاءً على أعمالهم. ويعتقد المسيحيون أن النفوس الصالحة في الفردوس، الآن، مع المسيح.
ورد، في أعمال الرسل، قول بولس: (فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا) [رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 1: 23]. ونفس المعنى ورد في رسالة كورنثوس الثانية (وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ) [رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 5: 8].
وهذه النصوص، وإن كانت ثابتة في الأناجيل، إلَّا أن المسيحيين يؤولونها، وعندهم أن النعيم المقيم يتمثل في الحياة الأبدية، وهذه الحياة في تصورهم مصرحٌ بها في الكتاب في غاية الوضوح فقيل: (وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ) [متى 25 :46]، (لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ) [يوحنا 3: 15].
وهذه الحياة الأبدية تكون بالمسيح، كما يزعمون، (لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا) [رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 6: 23].
ويعتقدون، أيضًا، أن النعيم الكامل، الذي لا شيء سواه في الجنة، يكون برؤية وجه الله الكريم؛ لأن التمتع بمشاهدته تملأ النفوس سعادة وهناء وغبطة، فتبقى مسحورة ببهائه الرائع لا ترتوي مدى الأبدية.
د. مصير الأطفال الذين يموتون صغارًا
يشير علماء المسيحية إلى مصير الأطفال، الذين يموتون قبل أن يُنَصَّروا بالتعميد إشارات عابرة.
فقد ورد في علم اللاهوت النظامي([12])– وهو يمثل فرقة البروتستانت- أن “جميع الأطفال الذين يموتون قبل سن التكليف والبُلْه أيضًا – أي الخارجين عن دائرة المسؤولية الأدبية – ينالون الخلاص بالنعيم بالمسيح، بتخصيص فوائد كفارته به، فيتجددون ويدخلون في حال الخلاص حالًا بعد الموت”.
وإذا كان البروتستانت قد قطعوا بالخلاص بالنسبة للأطفال الصغار والبُلْه، الذين لم يدركوا شيئًا، فإن الأرثوذكس يرون أن هناك اختلافًا بين العلماء في مصيرهم، ففريق من اللاهوتيين رأى “أنهم يكونون في حال متوسط بين الراحة، أي أنهم لا يعذبون؛ لأنهم لم يفعلوا شيئًا يستحقون عليه العذاب، ولا يتنعمون التنعيم كله؛ لأنهم لم يقتبلوا العماد، الذي هو شرط أساسي للنجاة من العقاب والحصول على مجد الخلود”.
هذا الفريق يرى أنهم لا ينعمون النعيم الكامل، ولا يعذبون، لعدم استحقاقهم العذاب، وبعض اللاهوتيين نفى عنهم النعيم المتوسط، ونفى عنهم العذابَ أيضًا. قال الفريق الآخر: “إنهم يُعْدَمون حقًّا مشاهدة الله إلى الأبد بسبب الخطيئة الأصلية، إلاّ أنهم لا يتعذبون في النيران الأبدية”. ومراد هذا الفريق أنهم لا يشاهدون الله؛ لأن الخطيئة التي وُلِدُوا وارثين إياها من آدم لا تمكنهم من رؤية الله والتنعم بذلك. وفي الوقت نفسه، لا يعذبون لعدم اقترافهم بالفعل الآثام. وينقل صاحب علم اللاهوت عن القديس غريقريوس قوله: “إن الأطفال غير المعمدين لا يمجدون ولا يعذبون؛ لأنهم وإن كانوا غير مستنيرين وغير مقدسين بالمعمودية لم يخطئوا خطيئة شخصية، ولا يستحقون كرامة ولا قصاصًا”.
وهذه الأقوال والآراء لا يستدل أصحابها بفقرات من الأناجيل وأعمال الرسل، وإنما هي عبارة عن اجتهادات واستنباطات.
هـ. خلود النعيم للأبرار
يعتقد المسيحيون في أبدية النعيم بالنسبة للأبرار. فقد ورد في علم اللاهوت النظامي: “أبدية تلك الحال مصرح بها في الكتاب في غاية الوضوح، فقيل: (وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ)”. ويستدل علم اللاهوت النظامي بما ورد في يوحنا: (اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ) [5: 24]. وبما ورد في يوحنا أيضًا: (لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ) [6: 40)، وبما ورد في أعمال الرسل: (وَآمَنَ جَمِيعُ الَّذِينَ كَانُوا مُعَيَّنِينَ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ) [13: 48)].
ويستدل بنصوص كثيرة جدًّا على أبدية حال الأبرار في النعيم. ويتحدث القمص ميخائيل مينا عن خلود النعيم للأبرار، بقوله: “إنه ثابت غير متناه؛ لأن ثبات السعادة شرط ضروري لكمالها؛ لأن السعادة متى حصلت مجهولة الثبات حصل في قلب مالكها خوف فقدها، ومن هذا الخوف يتولد الحزن، الذي هو ضد السعادة الكاملة. ولن يكون هناك مرضى لا موت ولكن إشراق وبهاء غير منقطع”([13]).
ثانيًا: النار عند المسيحيين
يعتقد المسيحيون أن نار جهنم مكان للعذاب، ولذا ورد في القاموس المقدس عن النار ما نصه: (في العهد الجديد أعطيت الهاوية معنى جهنم، أي أرض اللعنات والرجاسات ومسكن العذاب الأبدي ) [إنجيل متى 18: 8 و9 ومرقص 9: 43]. و(مسكن العقاب للخطاة) [رؤيا يوحنا اللاهوتي 9: 1 و11: 7 و20: 3]، و(الهاوية كمركز لكل أنواع العقاب) [متى 10: 23 ولوقا 10: 15].
أ. أبدية النار
ورد في إنجيل متى 41:25: (ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعحِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ)، وقوله الأبدية يشعر بأنها لا تفنى، والمسيحيون يعتقدون أن العذاب الذي يتعذب به الأشرار أبدي لا نهاية له.
وعندهم أن من دخل النار لا يخرج منها أبدًا؛ إذ إن (حال الأشرار لا تتغير) و(أنه لا رجاء للهالكين مطلقًا)، ويستدلون بنصوص كثيرة على أبدية العذاب لمن دخلوا النار.
ب. عذاب أهل النار
عذاب أهل النار نوعان: حسي ومعنوي:
وعن الحسي جاء في الإنجيل أن العذاب سيكون بالنار والكبريت، وبكاءهم (وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ) [متى 30:25].
ويتمثل العذاب المعنوي في غضب الرب، ورد في رسالة بولس إلى أهل رومية (وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ التَّحَزُّبِ، وَلَا يُطَاوِعُونَ لِلْحَقِّ بَلْ يُطَاوِعُونَ لِلإِثْمِ، فَسَخَطٌ وَغَضَبٌ، شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ الشَّرَّ) [رومية 2: 8-9]، وجاء في رسالة بولس الثانية إلى أهل تسالونيكي (فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِيًا نَقْمَةً لِلَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ اللهَ، وَالَّذِينَ لَا يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلَاكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ) [سالونيكي 1: 8-9].
ومع أن نصوص الإنجيل تجمع بين العذاب الحسي والمعنوي، فإن كثيرًا من المسيحيين لا يقولون بالنار الحسية، ويغلبون العذاب المعنوي المتمثل في غضب الله والهلاك الأبدي، بينما البعض الآخر منهم يذهب إلى أن أنهار النار حقيقية؛ لأن تكرار ذكر النار في النصوص الإلهية دليل واضح على حقيقة وجودها([14]).
وإلى المقال المقبل للحديث عن الآخرة في الشريعة الإسلامية.
وصلى الله على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وسلم
=================================================
([1]) التوراة للدكتور مصطفى محمود، ص 27، 28.
([2]) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير لليوتاكسيل ص 207.
([3]) الحكم والأمثال السورية القديمة لحنا حنا 2/191.
([4]) اليهودية بعد عزرا وكيف أقرت؟ لعبدالمجيد همو ص193.
([5]) https://st-takla.org/.
([6]) التلمود.. تاريخه ومعالمه، لظفر الإسلام خان، ط. دار النفائس، نسخة منشورة إلكترونية عبر موقع:
https://arabhistoriography.com.
([7]) حاخام وفيلسوف يهودي مصري، توفى في 330هـ / 942م.
([8]) صحيح مسلم/ شرح النووي، 3/226 – 228، المطبعة المصرية.
([9]) للاستزادة: كتاب اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام، لفرج الله عبدالباري أبو عطا الله، دار الوفاء، المنصورة، ط.2، 1992م، وموسوعة مقاتل من الصحراء عبر الإنترنت.
([10]) https://raseef22.net/.
([11]) https://st-takla.org/.
([12]) كتاب علم اللاهوت النظامي للقس جيمس أنس، تحقيق القس منيس عبد النور، ط. الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة- القاهرة.
([13]) موسوعة علم اللاهوت للقمص ميخائيل مينا، وهي تتكون من أربعة مجلدات، وقد ورد هذا النص في المجلد الثاني ضمن الموسوعة المنشورة إلكترونية على موقع:
www.unionbetweenchristians.com.
([14]) للاستزادة: كتاب اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام، لفرج الله عبدالباري أبو عطا الله، دار الوفاء، المنصورة، ط.2، 1992م، وموسوعة مقاتل من الصحراء عبر الإنترنت.