لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود مما خلقه في الأرض والسماء وما فيهما، خلقه الله ليعمر به ملكه وملكوته، وجعله خليفة عنه في أرضه، والخليفة في الأرض هو سيد مَن في الأرض ومَن في السماء، وجعل له ملك الأرض مقرًّا للإقامة ومستقرًّا له بعد موته، ثم ينشئه النشأة الثانية، فيمنحه الملك الكبير.
لذلك ابتلاه الله تعالى بأن سخر له ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه، وصرَّفه تصريف الربوبية في المُلْك، فكل ما في المُلْك والمَلَكُوت مسخَّر له بإذنه تعالى.
السيد أحمد علاء أبو العزائم
نائب عام الطريقة العزمية
بقية: بشارات الأنبياء بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بشارة سيدنا يَحْيَى عليه السلام:
وقد كان في عصر المسيح A رسل كثيرون منهم زكريا وابنه يحيى وغيرهما وكلهم كانوا يدعون إلى العمل بشريعة موسى A، ويبينون المبهم، ويفصلون المجمل، وقد يأمرون بما ليس في التوراة، أو ينهون عما هو فيها من الأحكام التي اقتضت الحكمة الإلـهـيـة نـسـخـهـا؛ أو اقـتـضــــت
تجديدها، لأنهم مكمِّلون لا مشرعون كسيدنا داود وسليمان.
ومعلوم أن يحيى كان معه في زمن واحد، وأنه عاش بعد المسيح وقد جاءت البشارات بسيدنا رسول الله J؛ ومنها حين قال يوحنا – يحيى – في شهادته: “إني أنا لست النور بل جئت أشهد للنور، النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم وخاصته لم تقبله، وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله”.
وتوضيح ذلك: أن الذي أباه قومه وقبله غير قومه وأعطاهم سلطانًا حقيقيًّا فهو سيدنا محمد J؛ لأن أعمامه عادوه وآذوه حتى أجمع بنو هاشم على معاداته إلا الإمام علي بن أبي طالب A وسيدنا حمزة، وقبِله رجل رومي “صهيب”، وآخر فارسي “سلمان”، وآخر حبشي “بلال”، وآخر نوبي “حارثة”، و”أبو رافع”.
وكل هؤلاء بلغوا من السلطان مبلغًا؛ حتى صارت تخشع القلوب لذكراهم، وتنحني الرؤوس لمشاهدتهم، ويخرج الخليفة من داره لملاقاتهم.
وقبِله رجل من تيم، وآخر من عدي، وجماعة من الأوس والخزرج، فما مضى زمن يسير؛ حتى أصبحوا ملوك الأرض وسادة العالم.
والمقصود بأبناء الله: إشارة إلى نسب الله أو أهل الله، بمعنى أن العصبية الجاهلية بالإنسان صارت تحت النعال، فصار نسب الله هو النسب، وحسب الله هو الحسب، وصار المسلم الكامل الإسلام لا نسب له ولا حسب له إلا الشرف بالتقوى، والعز باليقين والتجمل بالخشوع، والحب والرغـبة في الله ومن الله ولله.
وجاء في إنجيل يوحنا في قول عيسى A وهو يخاطب أصحابه: “لكني أقول لكم إنه من الخير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي الفارقليط” أي: محمدًا أو أحمد.
كما ورد فى إنجيل يحيى من قوله: “إن الذي يأتي من بعدي يكون قدامي …”، فالذي يأتي بعد يحيى ليس المسيح؛ لأن المسيح لم يأت بعده؛ لأنه أتى في زمنه مصاحبًا له، والذي يأتي بعده هو الرسول الذي بشر به إبراهيم A، وبشرت به أسفار التوراة هو المسمى (مَسِيَّا)، يعني الذي يحمده الناس أجمعون (محمد) عليه الصلاة والسلام، خصوصًا وأن يوحنا المعمدان هذا طال عمره بعد رفع المسيح A إلى السماء كما يقول النصارى.
يقول يوحنا: “إن المسيح إلى آخر ليلة كان يكلم تلاميذه بالأمثال، ووعد أن البارقليط المرسل من طرف الله والذي سيأتي بعده سيفسر ويبين كلامه وإنجيله الحقيقي”، وكلمة: بارقليط؛ أو: فاراقليط؛ يونانية قديمة ومعناها: المعين والمدافع والنصير والمواسي، وهو سيدنا محمد J.
وفي صريح إنجيل يحيى “يوحنا” حين قال له اليهود “أإيليا أنت؟، قال: لا، المسيح أنت؟، فقال: لا، قالوا: الرسول أنت؟، فقال: لا”، فأثبتوا ما أثبتته التوراة وهو بعثة إيليا والمسيح والرسول، ولما أن جاء الرسول J أنكروه كفرًا بالله وافتراء على كلامه العزيز.
التسمية باسم محمد في الجاهلية
ومع قرب مبعث سيدنا محمد J تطلع البعض إلى الاستحواذ على النبوة لجهلهم أنها ليست بالاكتساب، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد جاءت الأخبار أن بعض العرب لما عرفوا اسم النبي الخاتم وسمعوه من التبشير بخروجه سموا أبناءهم به طمعًا في نوالها.
فقد خرج أربعة من بني تميم يريدون الشام وهم: عدي بن ربيعة، وسفيان بن مجاشع، وأسامة بن مالك، ويزيد بن ربيعة، فلما وصلوا الشام نزلوا على غدير، فسمع حديثهم ديراني في صومعة له، فأشرف عليهم الديراني فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل البلد، فقالوا: نعم، نحن قوم من مضر، قال: من أي مضر؟، قالوا: من خندف، قال: أما إنه سيبعث منكم وشيكًا نبي، فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، فقالوا: ما اسمه؟، فقال: محمد، فلما انصرفوا من عنده ولد لكل واحد منهم غلامًا فسماه محمدًا. “المعجم الكبير للإمام الطبراني”.
وسئل محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم: كيف سماك أبوك محمدًا في الجاهلية؟، قال: أما إني قد سألت أبي عما سألتني عنه فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم؛ وسفيان بن مجاشع بن دارم؛ وأسامة بن مالك بن جندب بن العنبر؛ ويزيد بن ربيعة بن كنابية بن حرقوص بن مازن…
فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات الديراني – يعني صاحب صومعة – فقلنا: لو اغتسلنا من هذا الماء وادهنا ولبسنا ثيابنا، ثم أتينا صاحبنا فأشرف علينا الديراني فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل البلد فقلنا: نعم، نحن قوم من مضر، قال: من أي مضر؟، قلنا: من خندف، قال: أما إنه سيبعث منكم وشيكًا نبي فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا فإنه خاتم النبيين، فقلنا: ما اسمه؟، فقال: محمد، فلما انصرفنا من عند ابن جفنة ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدًا…
بالبشائر في الكتب السابقة يكشفُ الحقُّ للعالَم طريق السعادة الأبدية
تلك المباحث الحقيقية برهان حق على أن تلك البشائر التي في التوراة والإنجيل والزبور بالرسول J إنما يكشف بها الحق سبحانه للعالَم أجمع طريق السعادة الأبدية والنجاة السرمدية، التي لا تكون إلا بالتوحيد الحقيقي؛ والعبادة الخالصة؛ والأخلاق الطاهرة؛ والمعاملة الفاضلة.
ولم يأت رسول من الرسل قبله J بتلك المعاني كلها مجموعة في عقد واحد مبينة واضحة كالشمس في رابعة النهار، وأنه عبد ورسول لم تختلف القلوب ولا العقول ولا الألسنة في دينه.
أهل الكتاب يعرفون رسول الله كما يعرفون أبناءهم
وقد ذكرت صفاته في التوراة والإنجيل ليكون J علَمًا بالنسبة لأهل الكتاب ليعرفوه كما يعرفون أبناءهم، كما قال الله تعالى: )الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ( (البقرة: 146)، فعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفة رسولِ الله J في التوراة، قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفتِه في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأمِّيين، أنتَ عبدِي ورسولي، سميتُكَ المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسيئةِ السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملةَ العوجاء، بأن يقولوا: لا إلهَ إلَّا الله، فنفتح به قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، وأعينًا عُمْيًا.
وقد ورد أن عمر بن الخطاب 0 سأل عبد الله بن سلام بعد إسلامه عن رسول الله J فأقسم أنه ليعرفه كما يعرف ولده أو أكثر وقال: لأني لا أحكم بالعصمة على امرأتي، ولكني أصدق الله فيما أخبرني به عنه J في التوراة، فقبله عمر، وهو من أحبار اليهود، وقد أخبر بذلك تميم الداري أيضًا.
فمن اجتباهم الله من أحبار اليهود يعرفون رسول الله J واستقبال الكعبة كما يعرفون أبناءهم وأكثر.