هناك عبارة مشهورة عند الأشاعرة وهي: “طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم”، وذلك للدلالة على غرض كلا الطريقتين، فطريقة السلف – وهي كانت في الغالب التفويض – أسلم..
الدكتور محمد الإدريسي الحسني
بقية: التفويض بين الأشاعرة وأهل الحديث والحشوية
لقد اختلف في التفويض على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يصح التعرض للتأويل، أى يصح أن يعين لذلك اللفظ معنى صحيح لائق به جل وعلا عقلًا وشرعًا على وجه يصح استعماله ذلك اللفظ فِى ذلك فيُحْمَلُ بعد تعذّر استعماله فِى الحقيقة على أقرب مجاز يَصِحُّ؛ وهذا مذهب إمام الحرمين الجويني وجماعة.
الثانى: عدم التعرض للتأويل والاكتفاء بمجرد التنزيه عن الظاهر المستحيل؛ وهذا مذهب جمهور السلف وغيرهم.
الثالث: حمل تلك الظواهر على إثبات صفات لائقة به جل وعلا عقلًا وشرعًا باعتبار ما فِى نفس الأمر وإن لم نكن نعرف حقائق تلك الصفات؛ ولهذا يسميها صفات سمعية، أى دل عليها السمع لا العقل، وهى عنده زائدة على الصفات المعلومة لنا التِى شهدت بها العوالم عقلًا، فيحمل الاستواء من قوله تعالى: )عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( على إثبات صفة لمولانا جل وعلا زائدة على الصفات التى نعلمها من دلالة العوالم، سمّى سبحانه وتعالى تلك الصفة استواء وهو أعلم بحقيقتها، وكذا يقول فى الوجه من قوله تعالى: )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ( وكذا اليد من قوله تعالى: )لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ( وهذا مذهب الأشعرِىّ 0. والقولان الأولان يُنبيان على أن المطلوب فِى تأويل الظواهر المتعلقة بالعقائد هل هو اليقين فِى المعنى تُحمل عليه لا الظن، وحصول اليقين فِى المدعَى من اللفظ متعذر، فيجب الوقف بعد التنزيه عن ظاهر المستحيل، وهذا وجهُ قولِ السلف. والتفويض عند الأشعرية هو الإيمان بالمتشابه كالمحكم سواءً، وعدمُ الخوض في شرح الألفاظ الموهمة وتفويض معناها إلى الله، والقطع بأن الظاهر الموهم للتشبيه من تلك الألفاظ غير مراد. وقال الإمام أبو إسحاق الشاطبِىّ في تلخيص مذهب السلف ومن حذا حذوَهم من صالحي الخلف في هذه المسألة: (فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح وما سواه فهو فاسد. ثم لمَّا خُصَّ الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضًا عُلِمَ أن الراسخين لا يتبعونه، فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم أن أمكن حملها على المحكم بمقتضَى القواعد، فهذا المتشابه الإضافِىّ لا الحقيقِىّ وليس فِى الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين فليُرْجَعْ عندهم إلى المحكم الذِى هو أم الكتاب، وإن لم يتأولوه بناء على أنه متشابه حقيقِى فيقابلونه بالتسليم وقولهم: )آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا(، وهؤلاء هم أولوا الألباب) “من كتاب الإعتصام”.
أما الحنابلة فهم فريقان:
أما الفريق الأول: فيفهم التفويض على ما سبق بيانه، وعلى رأس هذا الفريق إمام المذهب أبو عبد الله أحمد ابن حنبل 0، فقد جاء في كتاب “ابطال التأويلات لأخبار الصفات” للقاضِى أبو يعلَى، فِى الأحاديث التِى تروى (إن الله ينزل) و(الله يرى) و (أنه يضع قدمه) وما أشبه ذلك، قال: (نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى)، وقال ابن الجوزِى: وكان الإمام أحمد يقول: أمروا الأحاديث كما جاءت، وعلى هذا كبار أصحابه كإبراهيم الحربِىّ وأبِى داود الأثرم. ومن كبار أصحابنا أبو الحسن التميمِىّ، وأبو محمد رزق الله ابن عبد الوهاب، وأبو الوفاء ابن عقيل.
وأما الفريق الثانِى: فهم مضطربون فِى أمر التفويض ولذلك تراهم يخلِطون بين القول بترك الألفاظ على ظاهرها والقول بنفِى الكيفية، مع الإصرار على ترك التأويل جملة وتفصيلًا واعتباره من كل ناحية تعطيلًا، وقد علم كل ذِى عقل أن إجراء الألفاظ على ظاهرها تشبيه محض، وكيف يكون للمتشابه ظاهر يترك عليه إذ لو كان ثمة ظاهر لارتفع الإشكال وزال الخلاف. وقد عجب ابن الجوزِىّ من هذا المسلك فقال – شارحًا أسباب غلط من غلط فِى أمر الصفات الثانِى – إنهم قالوا: إن هذه الأحاديث من المتشابه الذِى لا يعلمه إلا الله تعالى. ثم قالوا نحملها على ظواهرها (فواعجبًا ما لا يعلمه إلا الله أىُّ ظاهر له؟! فهل ظاهر الاستواء إلا القعود، وظاهر النزول إلا الانتقال)، وقال المحقق الشاطبِىّ بعد كلام فِى تفاوت البدع فِى الخطورة: (الثانِى بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم؛ حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى: Pالرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىO قاعد! قاعد!.
وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه، ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار كداود بن علِىّ فِى الفروع وأشباهه اهـ، وأما ابن تيمية وهو كبير المجسمة، فقال: إن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد اهـ.
درر بهية وعلوم نورانية اكرمك الله بالصحة والعافية