ولا شك أن الهاربين من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدًا عن أنفسهم أولًا، وهي مغبة نكراء تعصف بطمأنينة المجتمعات العربية صاحبة التقاليد الثابتة، وإذا استقرأنا طبيعة الفلسفات الإلحادية المعاصرة لاكتشفنا أنها في مضمونها عبارة عن تيارات فلسفية ترتكز على مجموعة من المبادئ الدينية ذات الطبيعة الذهنية المحضة تتخللها أفكار وثنية شرقية وغربية. ..
الأستاذ الدكتور بليغ حمدي
الإلحاد بسبب اعتقال النص
المشهد الثاني ضمن إحداثيات اعتقال النص هو مشهد مغاير تمامًا؛ لأنه من المدهش ارتفاع نسب الشباب الملحد في الوطن العربي وهذا يدخل من باب الاستعمار الثقافي حيث التشكيك في كافة النصوص الدينية وإطلاق العقل في خياله وصولًا إلى ضرب الهوس بالتأمل بغير ضابط أو حاكم رشيد للعقل، والأخطر أن تجد شبابًا فقير الرؤية والرؤى ضعيف اكتساب الثقافة عن طريق منابعها الأصيلة والرصينة يعكف طويلًا على شاشات الهواتف النقالة سعيًا إلى معرفة الفكر الإلحادي المتطرف، الأمر الذي من الأيسر والأسهل معرفة قدر ولو بسيط عن أمور العقيدة والدين نفسه من أجل تحقيق سلامة الأمن الفكري الذي تحدثنا عنه.
ولا شك أن الهاربين من النص الديني هم أنفسهم يسعون إلى اعتقاله وحبسه بعيدًا عن أنفسهم أولًا، وهي مغبة نكراء تعصف بطمأنينة المجتمعات العربية صاحبة التقاليد الثابتة، وإذا استقرأنا طبيعة الفلسفات الإلحادية المعاصرة لاكتشفنا أنها في مضمونها عبارة عن تيارات فلسفية ترتكز على مجموعة من المبادئ الدينية ذات الطبيعة الذهنية المحضة تتخللها أفكار وثنية شرقية وغربية. وتتناول هذه الفلسفات ـ في العادة ـ قضايا غيبية كمصير الإنسان بعد الموت، أو قضايا ذهنية حياتية كوجود الإنسان وماهية هذا الوجود، والأدوار الحياتية للإنسان كدور الخير والشر والتسامح، بالإضافة إلى الطبائع البشرية غير الثابتة كالقلق والتوتر والخوف من المجهول وهكذا.
وأغلب اليقين لا الظن في هذه الفلسفات التي انتشرت بقوة وسطوة في أوروبا منذ بزوغ نظرية النشوء والارتقاء، والتي كان من بين ضحاياها ملايين الشباب في الدول الغربية، اهتمت جل اهتمامها بالروحانيات، لكن للأسف الشديد لم ينتبهوا إلى عظمة الإسلام وطبيعة القرآن الكريم بوجه خاص في معالجة الجانب الروحي للإنسان، ولأنهم أرادوا بأنفسهم سوءًا طفقوا يجربون كل شيء على سبيل القلق الوجودي، فكانت النتيجة انتحار الملايين وانتشار البغي والفساد، وشيوع الزنا لاسيما زنا المحارم، انتهاء بالشرك والعياذ بالله. إن هؤلاء مرضى بحق لاسيما وأنهم ضحايا الجهل المركب؛ جهل العقيدة، وجهل الحياة!. وما أشبه تلك الفلسفات بمرض السرطان الذي يدخل جسد الإنسان في خلسة غير مرئية أو مسموعة، وسرعان من تتحول الخلايا السرطانية إلى وحش كاسر فاتك يدمر الإنسان نفسه، والتشبيه هنا يتقابل في مبدأ السرية والتخدير الكاذب، فمعظم المبشرين للفلسفات الإلحادية أوهموا الشباب التائه لاسيما بعد وقائع الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا بالكامل من وجهيها الحضاري النفسي والمادي المحسوس، وأوقعوهم في شرك الهدوء النفسي والبحث عن سبب لوجودهم، وهدف يأملون إليه، ناهيك عن المزاعم التي فرضوها على أولئك الشباب قسرًا وقهرًا حول إعادة التوازن النفسي لهم إزاء الآثار الناجمة عن الحرب.
ولا شك أن أولئك الشباب لم يجدوا في تعاليمهم الدينية غير الإسلامية ملاذًا وملجأ ومأوى؛ مما دفهم إلى الهرولة نحو هذه التيارات الهدامة التي أججت النار في نفوسهم المحمومة بدلًا من أن تطفئها وتهدئ من روعها. وكأنهم لم يقرأوا قول الله تبارك وتعالى: )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( (الشورى: 52).
وكما تعددت مسميات هذه الفلسفات الإلحادية مثل الهندوسية والجينية والبوذية والطاوية والشنتوية، أو وثنيات الشامانية والدرودية والهونا والويكا، أو فلسفات حديثة مثل الوجودية والبنيوية والتفكيكية والواقعية القذرة (كما في ترجمتها الإنجليزية) وغيرها من الفلسفات العجيبة، تنوعت وتباينت مظاهر معتنقيها مما دلل على هوسهم وتشتتهم الفكري والعقلي. فوجدنا أنصار ومريدي تلك الفلسفات ممن يطيلون شعرهم كالنساء، بالإضافة إلى ملابسهم الغريبة والتي تعبر عن حالات القلق والتوتر والتمرد التي يعيشونها.
وليتهم في ذلك الوقت استعانوا بالذكر الحكيم وهو يعبر عن حالات إنسانية راقية ترتقي وتعلو بفضل الله ورحمته، يقول تعالى: )فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ( (الأنعام: 125)، ومثل قوله تعالى الذي يفيد أن كل شيء بيده وحده لا شريك له: )إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ( (لقمان: 34). وهذه الآية الكريمة من شأنها أن تجعل الإنسان المؤمن قرير العين هادئًا مطمئنًا لقدرة الله.
وجاءت الفلسفات الإلحادية المعاصرة بفكرة موحدة وهي القدرة المطلقة للوجود الإنساني، وأن الإنسان بقدرته فاعل وقادر، واستندوا في ذلك على عشرات الأساطير اليونانية الوثنية التي تدعم قدرة هذا الوجود كأساطير بروميثيوس وأدونيس وغيرهما من القصص الأسطورية التي خدرت عقول الشباب الأوروبي وجاهد المستشرقون والتبشيريون في نقلها إلى الواقع العربي الإسلامي، وهوى كثير من الشباب العربي المسلم في بئر هذه الظنون والمزاعم الكاذبة من باب الولع بالتقليد.
واستندت أفكارهم على نثار الفلاسفة القدماء، أمثال ديكارت الذي حاول أن يقيم علاقة بين العقل والمادة، لكنه لم يعبأ بإقامة علاقة بين الله I وبين العالم؛ لأنه كما أشار المفكر الإسلامي عباس محمود العقاد أن قدرة الله في غنى عن هذه العلاقة، وكذلك جورج بركلي الذي لم ير أهمية في الكون سوى العقل لا سيما العقل الباطن. ومنهم من ارتكز على فلسفات أخرى مثل مذهب إسبينوزا الذي اعتقد أن الله والكون والطبيعة جوهر واحد، ومذهب الأخير متعدد الولوج في قضايا ذهنية مملة تدور في فلك الجوهر والماهية والامتداد ومصطلحات أخرى لا تفيد.
من أسلحة المواجهة
ولا شك أن الحكومات والأنظمة العربية في مأزق شديد بسبب حالتي التطرف الديني المتشدد، والنزوع إلى الإلحاد، وبات من الأحرى تحقيقًا لسلامة الأمر الفكري التخطيط لمواجهة إحداثيات شائكة تعصف بالمجتمعات العربية، هذا التخطيط وفق أجندة رؤى الدول الطامحة في التنمية المستدامة لأعوام مقبلة؛ التنوير الثقافي هو أبرز هذه الأسلحة من خلال التوعية والتبصير المباشر بغير خلل أو غموض لكثير من المفاهيم ذات الأهمية مثل التطرف والإرهاب والوسطية وازدراء الأديان واحترام الآخر والمساواة بين الرجل والمرأة.
ناهيك عن ضرورة معالجة قضايا مجتمعية ساخنة كالاستنساخ والزواج العرفي وزواج المتعة ونكاح الجهاد وتعليم الفتاة وغير ذلك من مشاهد من المؤسف زمنيًّا تناولها؛ لأنها من أساسيات قيام المجتمعات منذ القدم.
من أسلحة المواجهة أيضًا التوسع في دوائر النقاش والحوار مع الشباب، الذي بدا تائهًا باحثًا عن بوصلة لليقين ومرفأ آمن للمعرفة، بدلًا من تركهم فريسة سهلة القنص لتيارات وجماعات ذات مخالب ومثالب ومطامح خبيثة، أو هؤلاء الشباب اللاهث وراء فوضى منصات التواصل الاجتماعي سعيًا لشهرة باهتة مؤقتة حتمًا تنتهي بهم لنهايات لا تبدو سعيدة، كالإصابة بالأمراض النفسية أو الإلحاد أو الانتحار.