إن من يطالع تاريخ العلم الذي كتبه مؤرخو العلم من الغربيين، سوف يجد اتفاقًا غريبًا، إن لم يكن اتفاقًا مريبًا بين هؤلاء المؤرخين على الرغم من اختلاف مذاهبهم الفكرية والعرقية التي قد تصل في كثير من الأحيان إلى حد التناقض في الأفكار..
الأستاذ محمد إسحاق عبدالرسول
ابن النفيس
هو علي بن أبي الحزم بن النفيس القرشي (ت 1288م) أحد أطباء دمشق المشهورين، صنف كتاب “الشامل” في الطب، ولكتابه “شرح تشريح القانون” أهمية قصوى؛ لأنه في وصفه للرئة سبق غيره. كشف الدورة الدموية الرئوية ووصفها وصفًا علميًّا صحيحًا، فتقدم بذلك على سرفيتوس الذي يعزو الأوروبيون إليه هذا الكشف، ولا ريب أن هذا أعظم كشف في التشريح قام به العرب([1]).
غير أنه من أغرب الأشياء وأكثرها إغراقًا في الغرابة ما حدث مع ابن النفيس الذي كشف الدورة الدمويـة في كتابــــه “شرح تشريح القانـون”. فبعد أن كشف ابن النفيس الدورة الدموية، فإن تعاليمه أهملت بعده ثلاثة قرون من الزمان. ثم ظهر خلال واحد وستين عامًا من ترجمة كتابه إلى اللاتينية (عام 1547م) ثلاثة من علماء أوروبا يصفون دورة الدم في الرئة بنفس الألفاظ التي استخدمها ابن النفيس، هم: ميشيل سرفيتوس Servitus (1553م) الأسبانــي وريالدو كولومبــو Colombo (1559م) الإيطالي، وهو أستاذ التشريح في جامعة بادوا، ووليم هارفي Harvey (1658م) الإنجليزي، وقد أثبت البحث العلمي أن هؤلاء الرواد من الغربيين لـم يهــتدوا إلى النظريـة مستقلين عن ابن النفيس، فإن كتاب ابن النفيس قد ترجمــه إلــى اللاتينيــة طبيب إيطالــي هـو “الباجــو” Alpago ونُشِرت الترجمــة لأول مرةِ في مدينــة البندقيــة عــام 1547م وقد كان هذا علــى التحقيق مَرْجـــع هارفي الذي تُعْزىَ إليــه اليوم هذه النظريـــة([2]).
ولا شك أن هذا الأمر لا يدعو إلى الدهشة والغرابة فحسب، بل يدعو أكثر ما يدعو إلى الشك والريبة، فها هو عالمٌ عربيّ قد عالج موضوعًا ما وكتب كتابًا في ذلك الموضوع، وأُهْمل كتابه ثلاثة قرون، وفجأة تكالب على معالجة نفس الموضوع ثلاثة من العلماء في خلال واحد وستين عامًا وبنفس ألفاظ العالم العربي. إن أبسط تعليل يخطر بالذهن حول هذا الأمر يتلخص في أن التراث العلمي العربي صار غنيمةً في أيدي علماء أوروبا الذين كانوا من عوامل النهضة الأوروبية ينهلون من فيضه سطوًا واقتباسًا وانتحالًا.
وقد عقدت المستشرقة الألمانيـــة زجريد هونكه Z. Honke فصلًا خاصـــًّا حَكتَ فيه قصــة هذا: اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية وملابساتــه التي غيرت بعض معطيات تاريخ العَلْم العربي، واختتمته قائلة: “فإن أول من نَفَذَ ببصــره إلــى أخطـاء جالينوس ونَقَدهــا ثم جاء بنظريــة الدورة الدمويــة لم يكن سرفيتوس الأسبانــي ولا هارفي الإنجليزي بل كان رجلًا عربيــًّا أصيلًا من القرن الثالث عشر الميلادي وهو ابن النفيس، الذي وَصل إلى هذا الاكتشاف العظــيم في تاريخ الإنسانيـة وتاريخ الطب قَبْل هارفي بأربعمائـة عام، وقبل سرفيتوس بثلاثمائـة عــام([3]).
وعلى هذا الأساس فإن التشريح عند العرب قائم وواقع بدرجة أو بأخرى، سواء أكان جهرًا أو سرًّا، ولعل أوضح ما تمخض عنه البحث العلمي لدى المستشرقين أنفسهم وخاصة إذا كانوا من الأطباء ؛انكشاف حالة السطو الصريح على التراث العلمي العربي إذ إن هذا السطو هو السمة الغالبة على علماء أوروبا قبيل عصر النهضة وأثنائها وبعدها أيضًا، فقد كشف مارتن بلسنر في الفصل الخاص بالعلوم ضمن فصول كتاب “تراث الإسلام” الذي ألفّه شاخت وبوذورث Schact & Bosowrth عن حالة سطو صريح على التراث العربي في التشريح رغم تلك اللغة المهذبة التي وصف بها هذا السطو بأنه “تأثير التراث الإسلامي على الغرب” فيقول: “لا بد لنا أن نذكر مثالًا فريدًا لتأثير التراث الإسلامي على الغرب. ذلك أن مؤسس علم التشريح الحديث أندرياس فيساليوس A.Vesalius نشر في عام 1538م” جداوله “التشريحية كدراسة تمهيدية لمؤلفه الرئيس المعروف باسم “الصنعة” الذي كتبه عام 1543م. وقد ورد في النص اللاتيني لهذه الجداول عدد كبير من المصطلحات العربية والعبرية. وقد قام بعض الباحثين ببحث دقيق عن هذه الجداول التي أظهرت كيف اهتدى فيساليوس إلى معرفة المصطلحات في اللغات السامية التي لم يكن هو نفسه ضليعًا فيها. وهكذا حملت جداول فيساليوس التشريحية التراث العربي إلى مطالع العصور الحديثة”([4]).
ومن طريف المفارقات أن يكون هذا هو حال التشريح عند العرب، في الوقت الذي رأت فيه أوربا أن فن التشريح امتهان للجسم الذي خلقه الله، وأول عملية تشريح في أوروبا أجريت في باريس عام 1478م أو 1494م (أي بعد وفاة ابن النفيس بنحو مائتي سنة) وأجريت الأولى في بازل بسويسرا عام 1588م وفي بولونيا 1637م، وهكذا كُتِب للعرب السبق في تشريح الجثث، وفي ظل التشريح تقدمت الجراحة على يدهم”([5]).
نخلص من هذا لنقول: إننا بحاجة إلى مراجعة كل ما كتبه المستشرقون عن التراث العربي العلمي؛ حتى يعلم من لا يريد أن يعلم أن الحضارة الإنسانية مدينة للحضارة العربية الإسلامية في المقام الأول، وليس كما يتوهم المستشرقون ومؤرخو العلم من الغربيين أن الحضارة الإنسانية هي وليدة حضارة الإغريق، لسبب بسيط للغاية أن الحضارة العربية الإسلامية قد وسعت كل تراث العالم القديم من علوم اليونان والفرس والهنود ولقّحت كل هذا بالإبداع العلمي العربي، وأصلحتها وصححت ما بها من أخطاء ولاسيما التراث اليوناني، مما جعل العلماء العرب يجهدون أنفسهم وعقولهم في سبيل التوفيق بين المتناقضات التي لا تركب في عقل، وقضوا في ذلك قرنين ونصف قرن من الزمن([6]) بدليل ما كتبه العلماء العرب في هذا الشأن مثل كتاب الحسن بن الهيثم “الشكوك على بطليموس” وكتاب “الشكوك للرازي” على جالينوس” فأصبحت علوم الدنيا منقحة كلها في تراث العرب العلمي، وهي العلوم التي تلقفتها أوربا فيما قبل عصر النهضة، في أطول حركة للترجمة فقد استمرت ترجمة التراث العربي من العربية إلى اللاتينية من بدء القرن الثامن الميلادي حتى نهاية القرن الثالث عشر([7]).
ولعلنا لا نجد كلامًا مناسبًا في هذا المقام سوى قول الدكتور عمر فروخ: “إن حياة الأمم رهينة بحياة تراثها، فإن الأمة التي لا تراث لها لا تاريخ لها، وإن الأمة التي لا تاريخ لها ليست إلا كتلًا بشرية لا وزن لها في ميزان الأمم.
إن العرب اليوم أشد الأمم حاجة إلى الدفاع عن تراثهم، ذلك لأن الهجمات عليه قوية متوالية، ولم نعلم في تاريخ الإنسانية أن ثقافة ما هوجمت بمثل العنف الذي هوجمت به الثقافة العربية؛ ذلك لأن ثقافتنا بخصائصها وميزاتها سياج حقيقي لنا، والرغبات في تمزيق هذا السياج كثيرة ظاهرة للعيان لا حاجة إلى الدلالة عليها. ثم أن الغاية من تمزيق هذا السياج تمزيق الأمة العربية نفسها”([8]).
===============================
([1]) الموسوعة العربية الميسرة، مصدر سابق، ص 50.
([2]) في تراثنا العربي الإسلامي، مصدر سابق، ص216.
([3]) شمس العرب تسطع على الغرب، زجريد هونكه، ترجمة فاروق بيضون وكمال دسوقي، ص266.
([4]) تراث الإسلام، شاخت وبوذورث، ترجمة د. حسين مؤنس وآخرين، ج2 ص261.
([5]) العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي، مصدر سابق، ص48.
([6]) عبقرية العرب في العلم والفلسفة، د . عمر فروخ، ص 130.