من المعروف أن أساطين الفكر اليوناني أهل فلسفة ومنطق ورياضة، وجميعها تعتمد على إعمال العقل في التأمل والتفكير والاستنتاج دون الحاجة إلى العمل اليدوي بشهادة جميع المؤرخين، بدليل أن الكيمياء وهي علم تجريبي بامتياز، ولا تصح إلا بإجراء التجارب المتنوعة في موادها والمختلفة في ظروفها..
الأستاذ محمد إسحاق عبدالرسول
مقدمة
من المعروف أن أساطين الفكر اليوناني أهل فلسفة ومنطق ورياضة، وجميعها تعتمد على إعمال العقل في التأمل والتفكير والاستنتاج دون الحاجة إلى العمل اليدوي بشهادة جميع المؤرخين، بدليل أن الكيمياء وهي علم تجريبي بامتياز، ولا تصح إلا بإجراء التجارب المتنوعة في موادها والمختلفة في ظروفها، فإن لأرسطو عميد فلاسفة اليونان رأيًا ألهب خيال ومطامع مئات العلماء والباحثين عن الثروة، وهذا الرأي مؤداه أنه بالإمكان تحويل المعادن الخسيسة كالحديد والنحاس إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة، بل ووضع لهذا الرأي الإطار المنطقي لها، ولولا أن الغالبية العظمي من العلماء العرب تصدوا في حينها لهذا الرأي وبينوا فساد منطق أرسطو، وأثبتوا استحالة ذلك التحويل لتأخرت الكيمياء قرونًا عديدة([i]). ومن العجيب أن أحدًا من المستشرقين والمؤرخين لم يحمدوا للعرب هذه المكرمة بل على العكس فقد تناولت أقلام المستشرقين ومن تبعهم من المؤرخين – عدا قلة محدودة – بالذم والتجريح والهجوم على التراث العلمي العربي، حتى أن البعض قد وصف الإنتاج العلمي للعلماء العرب بالبربرية والجهالة([ii])، بدعوى أن العرب لم يخلقوا للتفكير الأصيل المبتكر([iii]).
نخلص من هذا لنقول: إننا سوف نعرض لواحد من هؤلاء الأساطين، وهو طاليس Tales (640 – 550 ق.م) الذي يوصف بأنه أبو الرياضيات الإغريقية، وقد زار مصر واهتم اهتمامًا خاصًّا بالتراث الكبير الذي تجمع على مر العصور لدى الكهنة المصريين، وحاول تفسير الحقائق الهندسية التي وصل إليها المصريون بالبداهة، فأدى ذلك به إلى السير في الخطوات الأولى التي أدت إلى ما يعرف الآن بالهندسة الاستنتاجية… Deductive geometry([iv]).
وبعيدًا عن إسهامه في الرياضيات فإن له رأيًا من الآراء التي حام حولها كثير من الفلاسفة، وهي أصل المادة أو المادة الأم التي تتكون منها الأشياء، يقول أ. وولف Wolff: “من المسائل التي دأب الفكر الإنساني على الاشتغال بها طبيعة المادة الأولى أو المادة التي تتكون منها جميع الأشياء وقد تتحول إليها جميعًا، وقد أثار هذه المسألة لأول مرة طاليس فافترض أن الماء هو المادة الأصلية”([v]). ويضيف جون ماكليش J. Mclish في كتابه “العدد”: “وكان طاليس أول مفكر حاول تفسير تنوع الطبيعة بالاستعانة بشيء من الطبيعة، وليس من خارجها، فقال بأنه يجب أن يكون الماء، وهو الجوهر الوحيد الذي عرف بأنه يمكن مشاهدته وهو يتغير من حالة الصلابة وهي الجليد، إلى الحالة السائلة وهي الماء إلى الحالة الغازية وهي البخار”([vi]).
سقطة سارتون وتصحيح واجب
من المعروف أن جورج سارتون G.Sarton من أشهر مؤرخي العلم، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، كما أنه من المعروف أنه أنصف الحضارة العربية وخاصة في كتابه “مقدمة في تاريخ العلم” ولعل ما جاء في تقديم كتابه الأشهر “تاريخ العلم”: “هو في تأريخه موضوعي ونزيه يحرص على التماس الحقيقة من مظانها الصحيحة ومن مصادرها الأصلية وهو مبرأ من نوازع العصبية ومن سلطان الهوى اللذين جعلا من غالبية المؤرخين أسرى لوهم المركزية الأوروبية حيث يرى أنه من السذاجة افتراض كون بداية العلم الصحيح هي بلاد اليونان، فالمعجزة اليونانية سبقتها بالفعل آلاف الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين، وأن العلم اليوناني إحياء أكثر منه اختراعًا…الخ”([vii]).
وعلى الرغم من هذا كله، فقد صدرت منه سقطة ما كان أغناه عنها، وهي سقطة وراءها ما وراءها؛ فقد جاء في حديثه عن طاليس قوله: “الحياة مستحيلة بغير الماء ولكن ما يكاد الماء يظهر؛ حتى يصبح وجود الحياة محتملًا، بل تمتلئ الأرض بالحياة ويظل الناس الذين يعيشون في الأجواء الرطبة، غير شاعرين بالضرورة البيولوجية للماء. لكن على طول شواطئ البحر المتوسط حيث يجف كل شيء في الصيف، وحيث تكون الأحوال الصحراوية مألوفة إلى حد ما، فإن أول غيث رحيم يخلق شيئًا يشبه بعث الطبيعة. وقد انتهى طاليس بعد النظر في جميع الحقائق إلى أنه إذا كان ثمة مادة أولية فالماء موجود في كل شيء وهو واهب الحياة. سيلاحظ المؤرخون باهتمام إلى أن نبي الإسلام أشار إلى نتيجة مماثلة بعد أكثر من اثني عشر قرنًا إذ أوحى إليه الله تعالى بقوله: )وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي( (الأنبياء: 30)… وليس من المستحيل أن التصور الطاليسي أن تسرب إلى ذهن محمد، ولكن ليس من الضروري على الإطلاق أن نزعم وجود هذه الصلة، بل الأقرب إلى المعقول أن نذكر الفرص الكثيرة التي تسنت للنبي كما تسنت لطاليس لمشاهدة جدب الصحراء يوميًّا، وامتلائها بالحياة بعد المطر في الغد، ووصل كل منهما إلى نتيجة مشابهة ولكنهما عبرا عنهما بشكل مختلف تبعًا لاختلاف مزاجهما، إذ كان محمد رسولًا ونبيًّا وكان طاليس رجل علم وأبرز طابع للعبقرية اليونانية، أنه مع أن طاليس أسبق من الرسول باثني عشر قرنًا([viii]).
ملاحظات وتصحيح واجب
1- إنها سقطة كبيرة ولا شك من مؤرخ تدين له الحضارة العربية بالكثير من الموضوعية والإنصاف خلافًا لجمهرة كبيرة من أترابه المستشرقين، وإذا تجاوزنا عن زلته الكبرى في مقارنته “طاليس” بالنبي، فهذا مما يطول القول فيه، فإن خلاصة القول في هذا الأمر، وهو خير رد على سقطة سارتون ما جاء في كتاب مايكل هارت الشهير “الخالدون أعظمهم محمد”، إذ تخير المؤلف مائة شخصية الأكثر تأثيرًا في العالم وقد رتبهم بحسب درجة التأثير، ليأتي النبي محمد في مقدمة هؤلاء المائة، مبينًا حيثيات الاختيار بقوله: “إن الرسول محمدًا قد كان دوره أخطر وأعظم في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى A في المسيحية. والقرآن الكريم نزل على الرسول كاملًا وسجلت آياته وهو ما يزال حيًّا وكان تسجيلًا في منتهى الدقة فلم يتغير منه حرف واحد، وليس في المسيحية شيء مثل ذلك، فلا يوجد كتاب واحد محكم دقيق لتعاليم المسيحية يشبه القرآن الكريم، وكان أثر القرآن الكريم على الناس بالغ العمق، ولذلك كان أثر محمد على الإسلام أكثر وأعمق من الأثر الذي تركه عيسى A على الديانة المسيحية. ويمكن أن يقال أيضًا: إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ([ix]).
وإذا كان سارتون لم يدرك – زمنيًّا – كتاب مايكل هارت فإنه بالطبع قد أدرك كتاب توماس كارلايل (1795 – 1881م) الشهير “الأبطال” الذي لم يجد من الأنبياء في صورة بطل سوى نبيّنا o الذي يقول عنه: “مثل هذا الرجل هو ما نسميه رجلًا أصليًّا، صافي الجوهر، كريم العنصر، فهو مبعوث من الأبدية المجهولة برسالة لدينا. نعلم أن قوله ليس بمأخوذ من رجل غيره، ولكنه صادر من لباب حقائق الأشياء. نعم يرى باطن كل شيء لا يحجب عنه باطل الاصطلاحات، وأن الحقيقة لتسطع لعينه؛ حتى يكاد يعشى لنورها…الخ”([x]).
========================
([i]) تبرئة العقل العربي من خرافة تحويل المعادن، مصطفى يعقوب عبد النبي، الجسرة، العدد 10، خريف 2001م، ص 181 – 191.
([ii]) تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، د. عبد الحليم منتصر، ص128.
([iii]) في تراثنا العربي الإسلامي، د. توفيق الطويل، ص58.
([iv]) رواد الرياضيات، ألفريد هوير، ترجمة رمضان أمين شريف، ص42.
([v]) عرض تاريخي للفلسفة والعلم، أ. وولف، ترجمة محمد عبد الوهاب خلاف، ص8.
([vi]) العدد، جون ماكليش، ترجمة د. خضر الأحمد و د. موفق دعبول، ص111.
([vii]) تاريخ العلم، جورج سارتون، ترجمة محمد خلف الله وآخرين، من تقديم مصطفى لبيب عبد الغني.
([viii]) تاريخ العلم، جورج سارتون، مصدر سابق، ج1 ص364.
([ix]) الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله، مايكل هارت، ترجمة أنيس منصور، ص12.