أخبار عاجلة

أسس منهج الإمام أبي العزائم في تقرير عقيدة السلف (12)

تكاد كلمة المسلمين تتفق على أن المعارف التي يجب على المسلم استيعابها هي: أصول الدين، وأحكام الشريعة.

وإن كانت المعرفة – بشكل عام – مطلوبة، ومرادة، وبكل فروعها، فيما يتعلق بالكون والحياة، وبخاصة ما يرتبط بالجوانب الاجتماعية والإنسانية التي تحدد علاقة الإنسان ببني نوعه، وذوات جنسه من كافة المخلوقات، كالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، التي استقطبت جهودًا جبارة من المصلحين، وفي مقدمتهم الأنبياء والأئمة، والعلماء، والصالحين من الناس.

الدكتور سامي عوض العسالة

عناية الإمام بتعريف بعض المصطلحات في علم العقيدة

أولاً: تقديمه القول بالحقيقة على القول بالمجاز

تعريف الحقيقة:

الحقيقة والحق هو الـثابت الذى لا يسوغ إنكاره، وفى اصطلاح أهـل المعانى: هو الحـكم المطـابق للـواقع. ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشـتمالها على ذلك، ويقابله الباطـل. فمعنى حـقيقة الشىء: مطابقة الواقع إياه([1]).

ويتلخص منهج الإمام فى تقديمه القول بالحقيقة على القول بالمجاز أنه كان يرى أنه لا مجاز فيما تتأتى فيه الحقيقة، فمتى أمكن حمل اللفظ القرآنى على الحقيقة فلا ضرورة تدعو إلى القول بالمجاز فيه، وأنه لا يحكم بالمجاز إلا فيما تستحيل فيه الحقيقة، فمثلًا عند تفسير قوله تعالى: )وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (الأعراف: 8).

يرجح الإمام أن المراد من الوزن والموازين الحقيقة لا المجاز فيقول 0: “والوزن يوم القيامة بميزان له كفتان، ولسان كل كفة أوسع مما بين المشرق والمغرب، فتوضع الحسنات فى كفة، والسيئات فى كفة، والموزون حقائق الأعمال، ولا بد أن يكون الوزن ملكوتيًّا لا مُلكيًّا، فهو كما يعلمه الله، وعلينا أن نسلم لله تسليمًا فى خبره”.

كما أنه عند تفسير قوله تعالى: )يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ( (المائدة: 37) يحمل الإمام الإرادة فى هذه الآية على الحقيقة دون المجاز فيقول: )يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ( معنى هذه أن أهل النار يحبون الخروج منها لما يعانونه من شديد الآلام، التي أنضجت جلودهم، وليس كل محبوب يُنال خصوصًا عند أهل النار، فإن الله حكم عليهم بالعذاب أبدًا ولا معقب لحكمه سبحانه. أما أهل الجنة فإن كل محبوب ينالونه؛ لأن الله تعالى تفضل عليهم بالخلود فى الجنة فى نعيم مقيم، قال تعالى: )تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ۗ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ ۖ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ( (الشورى: 22)([2]).

قال الفقيه أبو محمد 0: وقد تأول قوم هذه الإرادة أنها بمعنى يكادون على هذا القصص الذى حكى الحسن، وهذا لا ينبغى أن يتأول إلا فيما لا تتأتى منه إرادة الحقيقة، كقوله تعالى: )فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ۖ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا( (الكهف: 77)، وأما فى إرادة بنى آدم فلا، إلا على تجوز كثير([3]).

والإمام أبو العزائم فى هذا كله سلفي المنهج، فقد كان يرى أنه متى حمل الصحابة، والتابعون كلام الله تعالى على حقيقته، فلا يصح لنا أن نحمله على المجاز، خاصة إذا كان يتعلق بالعقيدة والغيبيات، ولكن قد تدعوه الضرورة إلى تخليه عن هذا المنهج.

فرأينا كيف فسر الميزان مثلًا بمعناه الحقيقى، ولكنه فى الوقت ذاته رأيناه كيف فسر الكرسى بأنه علم الله تعالى، فلقد كان يرى عدم التوسع فى إطلاق المجاز على ألفاظ القرآن الكربم، ومن الواضح أن المجاز، بأقسامه هو أهم الفصول فى الدراسات البلاغية.

تعريف المجاز:

قسم البلاغيون المجاز إلى مفرد ومركب، فالمجاز المفرد هو: “الكلمة المستعملة فى غير ما وضعت له فى اصطلاح به التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدم إراداته”.

وقسموا هذا المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة، فالمجاز المرسل هو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه، كاليد إذا استعملت فى النعمة؛ لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة([4]).

والآن أذكر أمثلة من صور المجاز التى سجلها الإمام.

1- المجاز المرسل: أشار إليه الإمام، وإن لم يذكره بهذا الاسم الذى عرف به عند علماء البلاغة، فمثلًا عند تفسير قوله تعالى: )الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (البقرة: 22).

يقول الإمام: “نسب سبحانه الإنزال لحضرته العالية، ولما كانت نعمه المفاضة من سماء إحسانه لنفع جميع خلقه مرتبطة بأسباب وضعها Y ليرى العباد من غرائب حكمته وعجائب قدرته، ما به تطمئن قلوبهم بحقيقة اليقين أنه هو المنفرد بالإيجاد والإمداد، قدر سبحانه أن يجعل نعمه مرتبة على أسباب أودعها فيما خلقه من البحار العظيمة وحرارة الشمس والهواء وبرد الجو فى العلو. وهو القادر أن ينزل الماء من نفس السماء من غير تلك الأسباب التى وضعها سبحانه. ولكنه أراد أن يشهد أهل العقل أنه وضع تلك الأسباب لترتقى عقولهم إلى معرفة من وضع الأسباب. قوله: )مِنَ السَّمَاء( إذا كان الماء متقاطرًا بتلك الأسباب المذكورة يكون المراد بالسماء العلو”([5]).

2- المجاز بالحذف: وقد أطلق عليه الإمام اسم المضمر، كما فى قوله تعالى: )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ( (يوسف: 82)، والمعنى: واسأل أهل القرية وأسأل أهل العير..، والعير هى الإبل المجهولة، وهذا الذى يسميه النحويون المجاز([6]).

قال ابن عباس 0 وغيره، وهذا مجاز، والمراد بها أهلها، وكذلك قوله تعالى: (والعير)، هذا قول الجمهور وهو الصحيح، وحكى أبو المعالى فى (التلخيص) عن بعض المتكلمين أنه قال: “هذا من الحذف وليس من المجاز، قال : وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هى له.

قال الفقيه أبو محمد: وحذف المضاف هو عين المجاز ومعظمه، هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر، وليس كل حذف مجازًا، ورجح أبو المعالى فى هذه الآية أنه مجاز، وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا”([7])([8]).

=============================

([1]) دسـتـور الـسـالـكـيـن طـريـق رب العالـمين للإمام أبى العزائم ص 22.

([2]) انظر: تفسير أسرار القرآن ج 6 ص 102.

([3]) تفسير ابن عطية: المائدة آية 37.

([4]) ينظر الإيضاح للخطيب القزوينى: ص 153، 154.

([5]) تفسير أسرار القرآن ج 1 ص 62.

([6]) الإسلام دين الله ص 60.

([7]) منهج ابن عطية فى تفسير القرآن الكريم ص 214.

([8]) الإسلام دين الله ص 62.

عن الاسلام وطن

شاهد أيضاً

الإنسان خليفة الله في الأرض (14)

لما كان الإنسان جوهرة عقد المخلوقات وعجيبة العجائب، وقد جمع الله فيه كل حقائق الوجود …