تكاد كلمة المسلمين تتفق على أن المعارف التي يجب على المسلم استيعابها هي: أصول الدين، وأحكام الشريعة.
وإن كانت المعرفة – بشكل عام – مطلوبة، ومرادة، وبكل فروعها، فيما يتعلق بالكون والحياة، وبخاصة ما يرتبط بالجوانب الاجتماعية والإنسانية التي تحدد علاقة الإنسان ببني نوعه، وذوات جنسه من كافة المخلوقات، كالأخلاق الفاضلة، والمعاملة الحسنة، التي استقطبت جهودًا جبارة من المصلحين، وفي مقدمتهم الأنبياء والأئمة، والعلماء، والصالحين من الناس.
الدكتور سامي عوض العسالة
بقية الفصل الأول: الإلهيات
المبحث الثالث: الصفات الإلهية
بقية المطلب الأول: الصفات السلبية (التنزيهية):
2- صفة البقاء:
لقد اتضح لنا من خلال حديثنا عن صفة “القدم” أنه عبارة عن: أزلية الوجود واستمراره في طرف الأزل، ولما كان صريح العقل يقضى بصحة تلك القضية التي تقول: “ما وجب قدمه استحال عدمه” فإن ذلك قد حدا بالمتكلمين جميعًا عندما يتحدثون عن صفة “القدم” أن يذكروا عقيبها صفة “البقاء”؛ وذلك لأن البقاء يعنى: استمرار الوجود في طرف الأبد.
فإثبات القدم له سبحانه يسلمنا إلى إثبات صفة البقاء له جل اسمه فهو يعد الصفة الثانية من الصفات التنزيهية.
والباقي هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ينتهي إليه. والبقاء ضد الفناء، بقى الشيء يبقى، وبقى بقيًا([1]).
وبعد هذه الإلماحة السريعة نأتي إلى تعريف البقاء كما جاء عند “الإمام أبى العزائم 0” وما يستدعيه المقام أحيانًا عند غيره:
تعريف الإمام أبي العزائم لصفة البقاء:
يقول 0: “البقاء: هو صفة سلبية معبر بها عن سلب معنى لا يليق به تعالى، وهو عدم الآخرية.
وبعبارة أخرى: فهو نفي لحوق العدم للوجود، أو: هو نفي الآخرية، قال الله تعالى في بيان أنه باقٍ لا آخر له سبحانه أبدي لا نهاية له: )وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( (القصص: 88).
وقال تعالى: )وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ( (الرحمن: 27)([2]).
ونلاحظ أن تعريف الإمام أبى العزائم للبقاء هو تعريف أهل السنة، يقول الإمام الغزالي في تعريفه: “الباقي هو الموجود الواجب وجوده بذاته، ولكنه إذا أضيف في الذهن إلى الاستقبال سمى باقيًا، وإذا أضيف إلى الماضي سمى قديمًا”.
وعرفه الإمام الرازي بقوله: “واعلم أنه تعالى واجب الوجود لذاته، أي غير قابل للعدم بوجه من الوجوه ، فكل ما كان كذلك كان ذاتي الوجود في الأزل والأبد، فدوامه في الأزل هو القدم، ودوامة في الأبد هو البقاء.
وقيل الباقي هو: الذي لا ابتداء لوجوده، ولا نهاية لجوده، وقيل الباقي: الذي يكون في أمده على الوصف الذي كان في أبده. وقيل: هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء”([3]).
وعرفه الشيخ الدسوقي قائلًا: “البقاء عبارة عن سلب العدم اللاحق للموجود وإن شئت قلت: هو عبارة عن عدم الآخرية للوجود والعبارتان بمعنى واحد”([4]).
ثمرة الاعتقاد بهذه الصفة عند الإمام:
وبعد أن يعرف الإمام أبو العزائم البقاء ويقيم على هذه الصفة الدليل من القـرآن الكريم لا يخلى المقام من اللون الصوفي الذى يضفيه على هذه الصفة، مبرزًا الفائدة من الإيمان بصفة البقاء فيقول: “تلك المعاني التي يعبر عنها بالصفات السلبية لا يشك في إثباتها للجناب المقدس شاك مهما كان، ولو أنه من غير بني الإنسان ، فالبهيم الأعجم لو أننا أمكنا أن نفهم منه ويفهم منا، وسألناه عن إثبات تلك الصفات الكمالية لله تعالى، لأجابنا: هذا أمر بديهي، لا يسأل عنه حي يرزق، يحتاج في كل نفس إلى معونة من مبدع الكون ومن بيده الإيجاد والإمداد تعالى.
ومن اعتور قلبه الشك والريب فأظلم أفق قلبه عن مكاشفة تلك الآيات الجلية، والأنوار الساطعة والأسرار المجلوة، لا يقع به العلم على عين اليقين، بل يهوى به الوهم في مكان سحيق”([5]).
هذا وتعد مسألة إثبات البقاء لله تعالى من المسائل التي اختلف فيها الأشاعرة، فبعد أن اتفقوا جميعًا على ثباتها لله تعالى تشعبت آراؤهم حول كيفيتها على النحو التالي:
1- الإمام “الأشعري” وطائفة معه قالوا: بأنها صفة معنى أي: صفة وجودية زائدة على الذات كالعلم والقدرة والارادة وغيرها من صفات المعاني؛ وذلك لأن الوجود متحقق دونها، كما في أول الحدوث، بل يتجدد بعده صفة هي “البقاء”([6]).
2- الباقلاني وإمام الحرمين الجويني والرازي والآمدي، وهؤلاء ذهبوا إلى أن البقاء صفة نفس لله تعالى وليست زائدة على ذاته([7])؛ وذلك لأن البقاء لو كان زائدًا عليه لكان له بقاء، وهذا البقاء إما أن يكون لبقاء آخر، وإما أن يكون لبقاء الذات، وإما أن يكون لنفسه. فإن كان لبقاء الذات لزم الدور، وإن كان لبقاء آخر لزم التسلسل، وإن كان لنفسه فحينئذ يكون البقاء باقيًا لنفسه، والذات باقية ببقاء البقاء، فكان البقاء واجب الوجود لذاته، والذات واجبة الوجود لغيره فحينئذ تتقلب الذات صفة، والصفة ذاتًا وهو محال([8]).
3- وذهب متأخرو الأشاعرة إلى أن البقاء صفة سلبية بمعنى أنها تنفى عن الله تعالى ما لا يليق به تعالى، فتكون على هذا المعنى: عبارة عن عدم الآخرية للوجود، أي سلب العدم اللاحق للوجود؛ وذلك لأنه لو قدر لحوق العدم به لكانت ذاته تقبل الوجود والعدم، وهو محال؛ لأن الوجود والعدم بالنسبة لذاته تعالى سواء، ويلزم من ذلك احتياجه تعالى لمرجح، فيكون حادثًا، وهذا أمر محقق البطلان.
ويعد هذا الرأي هو الرأي المختار في المذهب الأشعري، والذي اختاره الإمام حيث يقول: “البقاء: هو صفة سلبية معبر بها عن سلب معنى لا يليق به تعالى، وهو عدم الآخرية”([9]).
تعقيب:
نلاحظ أن تعريف الإمام أبى العزائم للقدم هو تعريف أهل السنة([10]).
كما نلاحظ أن الإمام أبا العزائم يختلف مع الإمام الأشعري ومن تبعه من الأشعرية، كما يختلف مع الباقلاني وإمام الحرمين والرازي والآمدي، ويتفق مع متأخري الأشاعرة الذين ذهبوا إلى أن البقاء صفة سلبية بمعنى أنها تنفى عن الله تعالى ما لا يليق به تعالى، مما يؤكد كما ذكرنا استقلالية الإمام في آرائه.
================================
([2]) كتاب الإسلام دين الله ص33.
([3]) شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص350، مكتبة الكليات الأزهرية 1976م.
([4]) حاشية الدسوقي على أم البراهين ص79.
([5]) كتاب الإسلام دين الله ص34.
([6]) المحصل ص174، وشرح المواقف 8/106، وشرح المقاصد 2/89.
([7]) معالم أصول الدين ص65، وشرح المواقف 8/106.
([8]) هوامش على العقيدة النظامية، أ0د. محمد عبد الفضيل القوصى ص169، مطبعة دار الطباعة المحمدية، ط1. 1984م.
([9]) كتاب الإسلام دين الله ص33.
([10]) شرح أسماء الله الحسني للرازى ص 350، وحاشية الدسوقي على أم البراهين للسنوسي ص79، وشرح البيجوري على الجوهرة ص68، وشرح الموقف الخامس ص167.