لولا أن المفسرين وشراح الأحاديث ينظرون في كتاب الله وحديث رسوله من وراء حجب المذاهب الفقهية لما وقعوا في أمثال هذه الأغلاط الواضحة، ولكنا في غنى عن الإطالة في التفسير لبيانها..
الدكتور محمد حسيني الحلفاوي
قية: أمرت أن أقاتل الناس
قال محدثى:
ما تقوله مجرد اجتهاد للعلماء ولكنى سلفى، منهجى الأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الإلتفات لقول غيره كائنًا من كان.
والحديث واضح وصريح فى محاربة غير المسلمين عامة وأنه ليس أمامهم إلا:
– إما الدخول فى الإسلام وإنهاء الحرب.
– أو استمرار الحرب؛ حتى فنائهم جميعًا.
قلت له:
وماذا تفعل مع أهل الكتاب ” اليهود والمسيحيين “؟!
قال محدثى:
هؤلاء لا ينطبق عليهم الحديث ويخيرون بين ” الإسلام أو دفع الجزية أو القتل “.
قلت له:
ها أنت اضطررت لتقييد كلمة ” الناس ” وأخرجت منها ” أهل الكتاب “.
فلماذا تنتقد العلماء الذين قيدوا كلمة الناس فى الحديث ” بمشركى العرب المحاربين خاصة “؟!
قال محدثى:
إن الذى اضطرنى لذلك هو قوله تعالى: Pقَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَO (التوبة: 29).
قلت له:
أى أنك قيدت عموم الحديث بآية واحدة.
فى حين رفضت تقييد العلماء للحديث بأكثر من 200 آية قرآنية !!
فكيف يستقيم ذلك؟!
علاوة على أن العلماء أخرجوا “المجوس” أيضًا من عموم الحديث وذلك لمعارضته للحديث الذى رواه البخاري أن النبى J: (أخذ الجزية من مجوس هجر)، ولحديث: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).
قال محدثى:
ولماذا قال العلماء أن المقصود بكلمة الناس ” مشركى العرب المحاربين فقط “؟!
قلت:
لأن هؤلاء قوم حاربوا الرسول J وآذوه أكثر من عشرين عامًا متصلة وما يزالون.
ولكن من سالم ولم يعتد؛ فليس لنا أن نقاتله ابتداء، أو نجبره على دخول الإسلام.
وهذا هو الثابت من القرآن الكريم والسنة الصحيحة.
ولأن الإكراه لا ينشئ مؤمنين ولكنه ينشئ منافقين.
والدليل على ذلك:
أن النبى J عندما دخل مكة عام 8ھ منتصرًا:
لم يخيِّر مشركى مكة بين الدخول فى الإسلام أو القتل كما يفهم من ظاهر الحديث
ولكنه قال:
(من دخل بيته فهو آمن.
ومن دخل الكعبة فهو آمن
ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن).
وقال قولته المشهورة: (اليوم يوم المرحمة).
والثابت تاريخيًّا أنه قال لمشركى قريش الذين حاربوه وآذوه أشد الإذاء:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء).
وكما ورد فى كتب أسباب ورود الحديث فإن حديث: ” أمرت أن أقاتل الناس…. ” قيل فى غزوة خيبر 7ھ..([1]) أى قبل فتح مكة 8ھ.
فلو كان معنى الحديث كما تفهمون لقام J بتخيير أهل مكة عند الفتح بين الإسلام أو القتل وهذا لم يحدث نهائيًّا.
بل إن صفوان بن أمية وهو من رؤوس الشرك لم يدخل فى الإسلام عند فتح مكة واستعار النبى J دروعه وأسلحته كعارية لحرب هوازن فى حنين.
وعندما انتهت المعركة بنصر المسلمين أغدق عليه J الغنائم وهو ما زال مشركًا نظير مساعدته في الحرب – فدخل صفوان الإسلام بإرادته الحرة، ودعا قومه للدخول في الإسلام طائعين وليسوا مكرهين([2]).
علاوة على أنه يجب التفريق بين “القتل” و”القتال”:
يقول الدكتور الشهيد محمد سعيد رمضان البوطى:
“إن المشكلة تنشأ فى ذهن الباحث فى هذا الموضوع، من عدم تنبهه إلى الفرق بين كلمتى (أقاتل) و(أقتل) مع أن بينهما فرقًا كبيرًا لا يخفى على العربى المتأمل.
لقد كان الحديث مشكلًا حقًّا لو كان نصه هكذا: “أمرت أن أقتل الناس حتى…”.
إذ هو يتناقض عندئذ مع سائر الآيات والأحاديث الكثيرة الأخرى الدالة على النهى عن القسر والإكراه.
أما التعبير بـ “أقاتل” وهي الكلمة التى عبر بها رسول الله J فيما أجمع عليه الرواة، فليس فيها لدى التحقيق ما يناقض النصوص.
وبيان ذلك أن كلمة “أقاتل” على وزن أفاعل تدل على المشاركة.. بل هى لا تصدق إلا تعبيرًا عن مقاومة لبادئ سبق إلى قصد القتل، فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمى مقاتلًا.
أما البادئ فهو فى الحقيقة يسمى “قاتلًا” بالتوجه والهجوم أو بالفعل والتنفيذ.
ألا ترى أنك تقول: لأقاتلن هؤلاء على ممتلكاتى أو على عرضى.
فلا يفهم أحد من كلامك هذا إلا أنك عازم على مجابهة العدوان منهم على مالك أو عرضك، فقتلك لهم إنما يأتى بعد توجههم إليك بالعدوان.
ومن هنا يتضح أن من الخطأ بمكان أن تعبر عن هذا المعنى بقولك: لأقتلن هؤلاء على مالي أو على عرضي.
إذن فالحديث معناه: أمرت أن أصد أي عدوان على دعوتي الناس إلى الإيمان بوحدانية الله، ولو لم يتحقق صد العدوان على هذه الدعوة إلا بقتال المعادين والمعتدين فذلك واجب أمرنى الله به ولا محيص عنه([3]).
وهذا ما فهمه إمامكم ابن تيمية من الحديث حيث قال:
” ليس المراد: أنى أمرت أن أقاتل كل أحد إلى هذه الغاية، فإن هذا خلاف النص والإجماع، فأنَّه لم يفعل هذا قط بل كانت سيرته: أن من سالمه لم يقاتله”([4]).
ولا بد أن يفهم الحديث هذا الفهم؛ حتى لا يتعارض مع القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة التى تؤكد أنه لا إكراه فى الدين.
ولذلك فمعنى الحديث:
أمرت أن أقاتل – المحاربين المعتدين الناقضين للعهود – إذا قاتلوا المسلمين واعتدوا عليهم.
ولكن رحمة بهم إذا أعلنوا الدخول فى الإسلام – طواعية وليس بالإكراه – أثناء المعركة فيتم إنهاء القتال معهم.
وبذلك يكون ادعاء التيارات السلفية وجماعات الإسلام السياسي بأنه يجب القيام بجهاد الطلب والانقلاب المسلح على العالم وتخيير الناس بين الإسلام أو القتل!!.
ادعاء باطل يخالف آيات القرآن البينات ويخالف الثابت عن النبى J.
([1]) البيان والتعريف فى أسباب ورود الحديث الشريف ” للشريف كمال الدين بن حمزة الحسينى الحنفى ج 1 ص 376.
([2]) لقاء الدكتور عدنان إبراهيم على قناة التونسية 19يوليو 2013م.
([3]) د. محمد سعيد رمضان البوطى فى كتابه ” الجهاد فى الإسلام كيف نفهمه؟ وكيف نمارسه؟ ط 2 دمشق.. دار الفكر 1997م ص 58، 59.
([4]) رسالة ” قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم ” لابن تيمية، تحقيق د. عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد ص 95.